الأحد، 4 أغسطس 2013

لودفيج فان بيتهوفن بين المجد والعذاب

مخاطباً أحد أمراء النمسا: إذا كان هناك آلاف الأمراء في العالم فإنه لا يوجد إلا بيتهوفن واحد في التاريخ!

تفتحت عبقرية بيتهوفين منذ الصغر. فمنذ الثامنة كان يعزف على
البيانو ويقدم الحفلات الموسيقية أمام الكبار. ومنذ سن الثانية عشرة قال عنه أستاذه: هذا العبقري الصغير يستحق أن يُدعم لكي يستطيع السفر ورؤية الناس. سوف يكون موزارت رقم 2 إذا ما استمر في صعوده على هذا النحو... لكن لنعد إلى البدايات الأولى.
هاشم صالح
ولد بيتهوفين في بون بألمانيا عام 1770، أي في العام الذي ولد فيه هيغل وهولدرلين. وهكذا ولد أكبر موسيقار، وأكبر فيلسوف، وأكبر شاعر في عام واحد. وسوف يصبحون مجد ألمانيا لاحقا. نقول ذلك على الرغم من أن بيتهوفين غادر بلاده في سن الثانية والعشرين لكي يستقر في فيينا عاصمة النمسا ويصبح نمساويا. ولكن ما الفرق بين النمسا وألمانيا؟ كان أبوه سكيراً قاسياً معه. ولكنه علّمه الموسيقى منذ نعومة أظفاره وتعب على تربيته. أما أمه فكانت الضوء الوحيد في هذه الطفولة البائسة والمظلمة من الناحية النفسية. ولكنها لم تعش طويلاً.
وعلى الرغم من أن بلاط بون فتح له أبوابه، وعلى الرغم من أن الحظ ابتسم له وأصبح يقدم الحفلات الموسيقية ويربح من المال الشيء الكثير، إلا أنه كان معذباً، شقياً. فقد كان يعاني من ضيق في الصدر ويخشى أن يصاب بالسلّ. وهو أخطر مرض في القرن التاسع عشر ولم يكن له دواء آنذاك. يضاف إلى ذلك أنه كان مصاباً بمرض نفسي يدعى السويداء: أي الكآبة المبهمة التي لا يعرف أحد سرها ولا مصدرها. ولكنه كان مفعماً بحب الحرية التي أخذت رياحها تهبُّ على أوروبا في ذلك الوقت. كان من أنصار التنوير والثورة الفرنسية التي أطاحت بالنظام الأصولي الإقطاعي القديم. من المعلوم أن الثورة الفرنسية اندلعت عام 1789عندما كان عمر بيتهوفين سبعة عشر عاما. وقد خلّدها في مقطوعات موسيقية رائعة.
وعندما وصل إلى فيينا كان قد دخل في عالم جديد تماماً. فبون كانت مدينة ريفية بالقياس إلى عاصمة النمسا والإمبراطورية. وكانت فيينا عاصمة الفنون وبخاصة فن الموسيقى بالإضافة إلى كونها عاصمة سياسية. وهناك تفتحت مواهب بيتهوفين فعلاً وأنجز سمفونياته الكبرى. وقد فتحت أبواب الملوك والأمراء في وجهه. وكان يعطي دروسه الموسيقية لأبناء العائلات الأرستقراطية والبورجوازية الكبرى. وفي الصالونات الراقية لمدينة فيينا كان بيتهوفين يعزف على البيانو ويسحر علية القوم من نساء ورجال. وقد عرف المجد والشهرة كما لم يعرفها أحد من قبله، باستثناء موزارت بالطبع. والشهرة درّت عليه المال. وعلى الرغم من ذلك فقد كان يخشى دائماً أن يصبح فقيراً، أو أن ينقصه المال عندما يكبر ويشيخ!

لقد حظي بيتهوفين بكل شيء في فيينا، وكان محسوداً من قبل الموسيقيين الآخرين. ولكن على الرغم من ذلك كان هناك ظل أسود يخيّم عليه، يقف فوق رأسه. ففي عزّ صعوده أُصيب بأخطر مرض يمكن أن يحل بموسيقي: الطرش! هكذا راح بيتهوفين يفقد سمعه رويداً، رويداً، حتى أصبح أطرش بالكامل. وكانت تلك هي بليّة حياته. كانت الضريبة الكبرى لشهرته العريضة التي طبَّقت الآفاق. وكاد أن يجنّ بيتهوفين، ولم يصدق أنه سيصبح أطرش بالفعل. ولكن هذه هي الحقيقة الواقعة. والحال أن المرض ابتدأ مبكراً نسبياً قبل الثلاثين. وكان يشعر في البداية بطنين في أذنه، وبصفير يشبه ضجيج الإعصار. وهو شيء يعذب صاحبه ليلاً ونهاراً. ثم تفاقم المرض حتى فقد السمع كلياً. وهكذا فإن الثلاثين عاماً التي بقيت أمامه لكي يعيشها سوف تكون أعواماً مسمومة. لقد أصيب بيتهوفين في شخصه، في أعزّ ما لديه، وهو لا يزال في أول الشباب. وقد استشار كبار الأطباء، ولكنهم بدوا عاجزين أمام هذا المرض الخبيث الذي يتقدم بسرعة مذهلة وبشكل لا مرجوع عنه.
وقد حكى لنا تلميذه "ريز" قصة مؤلمة حقاً. فعندما كان يتجول معه في ضواحي فيينا حيث الطبيعة الريفية الساحرة كان هناك راعٍ في البعيد يعزف على الناي. واعتقد "ريز" أنه سوف يسعد أستاذه إذ ما لفت انتباهه إلى هذا الصوت الجميل. ولكن بيتهوفين لم يسمع شيئاً. وفجأة امتقع وجهه واسودّ بشكل لم يسبق له مثيل من قبل وعرف أنه أصيب حقاً. وندم التلميذ على فعلته.فقد ذكره بمصابه عن غير قصد..
ثم حصلت حادثة أخرى: فقد دخل عليه الزوار في أحد الأيام بعد أن دقوا عليه. ولكنه فوجئ بهم كل المفاجأة لأنه لم يسمع طرقتهم على الباب. وكان منحنياً على ملامس البيانو فراح يضربها بعنف ونرفزة قائلاً: إني لا أسمع شيئاً أيها الناس! لا أسمع شيئاً! إني أطرش، أطرش.. وهكذا قطعته هذه العاهة عن العالم. فلم يعد يستطيع أن يتواصل مع الناس بشكل طبيعي عن طريق الكلام. وأصبحت الكتابة هي الوسيلة الوحيدة للتواصل. وراح يستخدم "دفاتر المحادثة" الشهيرة للتحدث مع أصدقائه أو مع الناس العاديين. فقد كان الشخص يكتب فيها أسئلته، وبيتهوفين يجيب عليها كتابة أيضاً. وخلَّف بيتهوفين وراءه المئات من دفاتر المحادثة هذه. وأصبحت فيما بعد المصدر الأساسي لكتابة سيرته الذاتية. ويبدو أنها لم تستغل بما فيه الكفاية حتى الآن. ففيها معلومات كثيرة عن آرائه الفلسفية، أو استلهاماته الموسيقية، أو حتى مزحاته ونكاته السوداء. فهو لم يفقد حس النكتة على الرغم من عاهته وتشاؤمه. وفي الطريق، أو المقهى أو في أي مكان آخر كان يحمل معه دفاتر المحادثة هذه تحسباً للقاء الناس.

هناك وثيقة شهيرة تدعى بوصية بيتهوفين. وقد كتبها في منطقة تدعى هيليجنستادت، إحدى ضواحي فيينا الجميلة. وكان يحب الإقامة فيها نظراً لطبيعتها الخلاّبة وصمتها الهادئ الذي يشبه سكينة الريف. عندئذ أحس بيتهوفين بأن طرشه المتزايد الذي أخذ يعذبه منذ ست سنوات لا مرجوع عنه. صحيح أنه كان يحاول إخفاءه عن الآخرين كبقية الطرشان، ولكن لا فائدة. يضاف إلى ذلك شعوره بأن نهايته أصبحت وشيكة. في تلك اللحظة فكر بيتهوفين بالانتحار لأول مرة. ولذلك راح يكتب وصيته إلى أخويه. يقول في هذا النص الشديد الأهمية: 
"أيها الناس! إنكم تعتقدون أني معاد للبشر وكاره للمجتمع إذ أنعزل وأعيش في الوحدة. ولكنكم تجهلون حقيقتي تماماً. فالمظاهر تخدعكم ولا تعرفون سبب عذابي وآلامي. لقد ولدت بطبع حامٍ ورغبة عارمة في الحياة الاجتماعية ومحبة للمعاشرة. ولكني اضطررت للانعزال والعيش وحيداً غصبا عني بسبب هذه العاهة. وعندما حاولت أن أخرج من العزلة وأقترب من الناس راحت عاهتي تشدني إلى الخلف وتمنعني من الاحتكاك بالآخرين. إني اخجل منهم. ماذا تريدونني أن أفعل؟ لا أستطيع أن أقول للناس: تكلموا بشكل أقوى لكي أسمع! لا أستطيع أن أقول إني أطرش!... وهكذا يتزايد ألمي بمعاشرة البشر لأنهم سوف يأخذون عني فكرة سلبية إذا ما عرفوا أني لا أسمع. لم يعد مكان في حياتي لمعاشرة الناس، ولا لمناجاة الأصدقاء والخلاّن... إني مجبر على العيش وحيداً وكأني منفي في بيتي، في نفسي، في عقر داري. وعندما أشعر بالرغبة في الانخراط في المجتمع فإني أجبن وأتراجع لأني أخشى أن يعرف الناس أني أطرش. لقد اقتربت من حافة اليأس أكثر من مرة، وكدت أضع حداً لحياتي. ولكن حب الفن منعني من ارتكاب ما لا تحمد عقباه. وبدا لي أنه من المستحيل أن أقول وداعاً للعالم قبل أن أعطي كل ما يمكن أن أعطيه. يا إخوتي إني أتمنى لكم حياة أفضل من حياتي، حياة أكثر سعادة من حياتي. قولوا لأولادكم أن يتبعوا الفضيلة. فهي وحدها التي تؤمن السعادة، وليس المال أبداً. وحدها الفضيلة مع الفن هي التي نجَّتني من الانتحار".
كم هو جميل هذا النص لبيتهوفين، وكم له من مغزى! فالفكرة الأساسية الأولى التي نستخلصها منه هي أن الكثيرين من المبدعين كانوا سينتحرون لولا أن إبداعهم كان ينتظرهم فأنقذهم. وإذن فإبداعهم أغلى من الحياة وأقوى من الموت بالنسبة لهم. أقول ذلك وأنا أتحدث عن المبدعين الكبار بالطبع: أي عن عباقرة الدرجة الأولى. وأما الفكرة الثانية التي نستخلصها من نهاية هذا النص فهي تركيزه على الفضيلة: أي على الأخلاق. فالشخص غير الأخلاقي لا معنى له في نظر بيتهوفين حتى ولو كان أغنى الأغنياء أو أعظم العظماء.

في عام 1812 حصل اللقاء التاريخي بين بيتهوفين وغوته: أي بين قمة الموسيقى وقمة الأدب. وقد نظمت هذا اللقاء إحدى السيدات الألمانيات، وكانت صديقة للرجلين. ولكن كل شيء كان يفصل بينهما. فغوته كان رجلاً متوازناً يخشى الشخصيات الحدّية المتطرفة وربما العصابية من أمثال بيتهوفين. كان يحب الوضوح، والنور، والهدوء. ولذلك وصفه أحدهم بأنه الرجل الأكثر وضوحاً في أوروبا. وكل هذا يبعده عن بيتهوفين أكثر مما نتصور. فبيتهوفين كان رجل البرق اللامع والرعد القاصف وسط الظلمات! كان ينتظر أن ينزل عليه الإلهام وهو في حالة من الهيجان النفسي التي لا توصف. يضاف إلى ذلك أنه ناضل كثيراً ضد نوائب الحياة وضرباتها الغادرة. أما غوته فقد ابتسمت له الحياة منذ البداية، وحتى النهاية. وقد نعم بمجده وشهرته على أفضل وجه. ولم يصب بأي مرض عضال أو عاهة مزمنة. هذا في حين أن بيتهوفين عرف الشر والشقاء منذ أن فتح عينيه على هذه الدنيا. فأبوه كان سكيراً عربيداً يضربه ويسيء معاملته كما ذكرنا. وأمه كانت وديعة طيبة ولكنه فجع بها مبكرا. ثم جاءت عاهة الطرش لكي تنغّص عيشه وتهدم شبابه. فقد عزلته عن مجتمع البشر وأغلقت عليه أبواب الصمت، والظل، والحزن العميق. والطبيعة التي كانت بالنسبة لغوته درساً من دروس الحكمة، أصبحت بالنسبة لبيتهوفين العزاء الكبير بعد الفن. كان مستشار ألمانيا قد رثى غوته بعد موته عام 1832 قائلاً بأنه أمضى حياته في بذل الجهود المستمرة من اجل التوصل إلى الفرح والنور. ولكن من يستطيع أن يطبق هذه الكلمات على بيتهوفين المظلم الحزين؟ لا ريب في أن بيتهوفين كان يبذل جهوداً خارقة للتوصل إلى النور. ولكنها كانت جهوداً يائسة وشبه مستحيلة.

كان غوته يحب محادثة الأمراء ويستفيد كثيراً من أعطياتهم وهباتهم. أما بيتهوفن فوصل به الأمر حد توبيخ أحد أمراء النمسا الذي طلب منه أن يعزف على البيانو في بيته أمام الضباط الفرنسيين فرفض وقال كلمته الشهيرة: يا أمير إن مكانتك توصلت إليها عن طريق الولادة والصدفة، أي دون بذل أي جهد. وأما أنا فقد توصلت إلى مكانتي عن طريق جهودي الخاصة. وإذا كان هناك آلاف الأمراء وأبناء العائلات في العالم، فإنه لا يوجد إلا بيتهوفن واحد في التاريخ!.


لا، لم يكن هناك جسر يجمع بين هذين الرجلين. لقد التقيا لفترة قصيرة ولكن لم يتفاهما. وقد انفضَّ اللقاء بسرعة. وقال غوته عنه فيما بعد: إن موهبته أدهشتني وأعجبتني. ولم أر في حياتي حتى الآن فنانا يمتلك كل هذا التركيز الكثيف الجبار، هذا التركيز القوي، الداخلي. ولكن للأسف فإنه شخص غير مروَّض ولا يمكن ترويضه. صحيح أن معه الحق في الثورة على العالم وكرهه. ولكن هذا المنظور لن يجعل العالم أكثر لطفاً بالنسبة له، ولا بالنسبة للآخرين فكره العالم ليس هو الحل. لا ريب في أنه معذور بعد تلك العاهة التي أصابته. ولكن هذا لا يضر بإبداعه الموسيقي بقدر ما يضر بحياته الاجتماعية. صحيح أنه ميال للصمت بطبيعته. ولكن هذه العاهة جعلته أكثر صمتاً.
وأما بيتهوفين فعاب على غوته حبه لبلاطات الأمراء والملوك. وقال بأن الشاعر لا ينبغي أن يكون مبهوراً بالبلاطات والأبهة، وإنما ينبغي أن يكون معلماً للأمة ومرشداً لها. فسعادة المستشار غوته يحب محادثة الأمراء والكبار ويستفيد كثيراً من أعطياتهم وهباتهم. وأما بيتهوفين فقد وصل به الأمر إلى حد توبيخ أحد أمراء النمسا الذي طلب منه أن يعزف على البيانو في بيته أمام الضباط الفرنسيين. فرفض وقال كلمته الشهيرة: يا أمير، إن مكانتك توصلت إليها عن طريق الولادة والصدفة، أي دون بذل أي جهد. وأما أنا فقد توصلت إلى مكانتي عن طريق جهودي الخاصة. وإذا كان هناك آلاف الأمراء وأبناء العائلات في العالم، فإنه لا يوجد إلا بيتهوفين واحد في التاريخ!...
عندما كانت تصيب بيتهوفين غمّة أو كربة فإنه كان يخرج من فيينا ويلقي بنفسه في أحضان الطبيعة. وطالما رآه الناس هناك شبحاً سائراً صامتاً لوحده يعانق الأشجار والأزهار ويشم الهواء أو يجلس على حافة البحيرة وينظر طويلاً طويلاً إلى السماء. ولم يكن يخشى الطبيعة في فصل الشتاء حيث العواصف والرعد والبرق والرياح. على العكس كان ينسجم كل الانسجام مع انفجار الطبيعة الذي يشبه انفجاره هو بالموسيقى.كان بيتهوفين وهو أطرش يكاد يسمع صمت الطبيعة!
وفي عام 1824 قال بيتهوفين وداعاً للعالم. وترأس لآخر مرة الجوقة الموسيقية التي أنشدت السمفونية التاسعة (سمفونيته). وعندما انتهت ضجّ الجمهور بالتصفيق ووقف الجميع تحية إجلال للموسيقار العظيم. ولكن بيتهوفين لم يسمع شيئاً بالطبع ولم ير شيئا لسبب بسيط: هو انه كان مديراً ظهره. فجاءت إحدى الممثلات وأمسكت به من كتفيه وأدارته باتجاه الجمهور لكي يرى على الأقل الأيدي التي تصفق. فانحنى وبكى وانسحب لآخر مرة من العالم...

الاوان- الأحد 8 تموز (يوليو) 2007


ليست هناك تعليقات:

Disqus for TH3 PROFessional