الخميس، 1 أكتوبر 2015

كيف نتخلى عن إنسانيتنا لصالح الوحوش داخلنا؟ آثار الحرب على المجتمع اليمني!

 السفير العربي محمد العبسي
كان أحد الإعلاميين اليمنيين يصرخ، بانفعال متصنّع، أثناء مداخلته لإحدى البرامج اليومية في إذاعة تابعة لجماعة الحوثيين، مديناً صمت الدول العربية تجاه ما تتعرض له اليمن وفلسطين! كنت شارد الذهن ولم أنتبه إلى أن البرنامج كان مكرساً للحديث حول الاعتداء الإسرائيلي على المسجد الأقصى إلا في اللحظة التي امتدت يد السائق لإطفاء المذياع بشيء من الحنق ونفاد الصبر. ألتفت نحوي وقال: "إسرائيل قصفت المسجد الأقصى. طيب. كم مسجد فجروه هم أو قصفوه"! 

لم أكن في مزاج جيد لخوض محادثة مع سائق التاكسي رغم أني اتفق إلى حد ما مع ما قاله. ذلك أن قذائف الحوثيين والقوات الموالية للرئيس السابق قصفت العديد من المساجد والمستشفيات آخرها مسجد السعيد، قبل أيام، في مدينة تعز.
لكن سوء مزاجي لم يكن السبب الوحيد لعدم خوضي أي محادثة معه، واكتفائي بهز رأسي، بقدر ما يتعلق الأمر بازدواجية المعايير، والتناقضات المريعة، لدى اليمنيين والعرب على المجمل. إذ بات شأنا اعتيادياً يومياً أن تجد شخصاً ما (في الحافلة، أو المقيل، أو وسائل الإعلام التواصلي) يريد أن يجرّك بالقوة إلى صفّه وجماعته، ضمن الاستقطابات الجاهلية التي أججتها الحرب في اليمن، على نحو مريع، على أساس طائفي أو مناطقي أو عصبوي أو مذهبي.
يمنيون يبقون أياما أمام محطات الوقود وكالات
لم يعد مفاجئاً ولا صادماً في اليمن أن تجد أستاذاً جامعياً وحقوقياً مرموقاً يدين القصف السعودي لأهداف في صنعاء وصعدة وعمران ويناهض، بأعلى صوته، ترويع الأطفال وتعريض حياة المدنيين للخطر. وفي الوقت نفسه تجده مؤيداً، أو صامتاً في أحسن الأحوال، القصف والقذائف اليومية التي تمطرها المدفعية الحوثية على سكان مدينة تعز. والعكس: في كل مرة تقتل طائرات تحالف عاصفة الحزم مدنيين في صنعاء أو في ذمار أو أي من المدن اليمنية ينبري أنصار العاصفة للدفاع والتبرير بل والتشفي في بعض الحالات، رغم سقوط عشرات الضحايا من الأطفال والنساء.

لقد شرخت الحرب، بشقيها الداخلي والخارجي، اليمنيين وقسمتهم إلى معسكرين، وباتت موقفهم تجاه الأحداث والانتهاكات اليومية تتحدد، لا بناء على معايير قيمية أو أخلاقية، وإنما حسب هوية الجاني وانتماء الضحية. مع أو ضد بصريح العبارة.

أبعد من ذلك أخذت أتساءل: لماذا شعرت، كيمني، بالتعاطف مع اللاجئين السوريين إلى أوروبا، وبكيت بحرقة، لدى رؤية مشاهد مؤلمة ومهينة تعرضوا لها في بعض الدول الأوروبية، بينما لم أشعر بذات التعاطف، أو أذرف دمعة، على اللاجئين الصوماليين الذين يهانون في اليمن، وتستخدمهم عصابات التهريب في الجريمة، وتحتجزهم في معسكرات تعذيب كشفت عنها قبل عام هيومن رايتس؟ حتى حاملو أرقى الشهادات الجامعية منهم ليس أمامهم أي فرصة للعيش الكريم، والوظيفة الوحيدة المتاحة للصومالي في اليمن هي غسيل السيارات للذكور، وخادمات للإناث!

لكن الأمر لا يقتصر علي أو على شريحة واسعة من اليمنيين بقدر ما هي لوثة غير مرئية في المجتمعات العربية ودول العالم الثالث، بل والبلدان التي لم تنتصر للإنسان والحريات العامة والخاصة بعد. بحيث يتعايش المرء مع التناقضات دون أن يشعر بها، فيمتدح تعامل وترحيب ألمانيا باللاجئين، وهو ذاته يؤيد من تسبب في تشريد وتهجير الآلاف في بلده من أبناء جلدته؟ ويذم سلوك رجال الشرطة اللذين انهالوا بالضرب على لاجئين على حدود بعض الدول الأوروبية بينما ما تقوم به المليشيات في بلده بأبناء جلدته أبشع وأشنع.

على نحو أعمق، يمكننا أن نتساءل أيضاً: كيف يستطيع شخص طائفي ومذهبي متعصب، في بلده وحياته وطريقة تفكيره، أن يكون إنساناً، أكثر نبلاً وتسامحاً وأقل عصبية، ولو لأيام أو ساعات أو لحظات إشراق عابرة عند تلقيه وتفاعله مع قضايا وقعت في مكان ما من العالم كأزمة اللجوء إلى أوربا، كما حدث مؤخراً وبدا جلياً على صفحات التواصل الاجتماعي؟ بمعنى كيف لشخص تعاطف مع نازحيين سورين ومقدونيين ماتوا اختناقاً داخل حافلة نمساوية على نحو إنساني مجرد لكونه لا يعرفهم، وليسوا من أقاربه، ولا قبيلته، ولا مذهبه، وربما ليسوا من نفس ديانته، بينما هو في بلده لا يتعاطف، ولا يتحمس إلا لضحية من نفس مذهبه، أو جماعته؟

كيف لشخص بكى بحرقةٍ وتفجّع عند رؤية جثة الطفل السوري إيلان مرمية على ساحل بحر إيجة، وما أكثرهم في اليمن والعالم العربي ككل، دون أن تستفز مشاعره ويؤثر فيه موت مئات الأطفال منذ اندلاع الحرب في اليمن ولو بدرجة أقل ونبرة حزن أخفض؟ إيلان وأسرته حاولوا النجاة على الأقل. قرروا النزوح مدركين المخاطر فكانوا ضحية جملة من العوامل المعقدة: (الحرب، فرار المهرب، الطبيعة وهيجان البحر، المخاطرة).
بالمقابل: كم من أطفال اليمن، أو بلد آخر كسوريا أو العراق، ماتوا وهم في منازلهم حتى فلا ركبوا البحر، ولا خاطروا، ولا طمحوا في حياة أفضل من التي لديهم، مؤثرين السلامة على المخاطرة، وجحيم البقاء في "الوطن" على "نعيم" اللجوء؟ كم واحداً منا كان إنساناً في تلقيه لحادثة غرق الطفل إيلان، في حين لم يضطرب وجدانه عندما قتلت قذائف الحوثيين والقوات الموالية لصالح 16 طفلاً في يوم واحد بمدينة تعز أو في عدن!

أليس الإنسان هو الإنسان؟
لماذا تستثار المشاعر هناك وتقمع هنا؟
لكن هذه نصف الحقيقة فقط. كم واحداً منا، على الضفة الأخرى، كان إنساناً في تلقيه لحادثة غرق الطفل إيلان، في حين لم يشعر بالتعاطف والحزن لمقتل سناء البدوي طالبة الصف التاسع إثر قصف طيران التحالف منزلها في جولة الرويشان بصنعاء؟ بل ليته سكت ذلك. أن البعض ألزم نفسه مهمة تنظيف القذارة وتبرير وإنكار كل جريمة أو غارة "خاطئة"؟ لقد أبيدت أسر بكاملها وقتل نحو 100 شخص في قصف طيران التحالف لسكن مهندسي محطة كهرباء المخا في محافظة تعز. والقائمة تطول: 7 مِن أفراد أسرة عبد المجيد الفضلي (الأم والأبناء والحفيدة) قتلتهم بوحشيّة غارة على حي النهضة بمدينة صنعاء، واصغر الضحايا طفلة في الثانية من عمرها (هويدا).

على المستوى العربي: كم رجل دين مسلم جنّ وثارت ثائرته بسبب مشهد ضرب شرطة إحدى الدول الأوروبية كالمجر مثلاً للاجئين على حدودهم، بينما ضميره في إجازة، والأقليات تشرد وتذبح على يد داعش، والمعارضون والصحفيون يرمون في السجون ومعتقلات الأنظمة العربية القمعية؟ وهل يمكن مقارنة معاملة أسوأ الدول الأوروبية بمعاملة الشغالات الفلبينيات في دول الخليج مثلاً؟ رواية ساق البامبو للكويتي سعود السنوسي تجيب.  
كيف يمسي أحدنا كونياً إذن ويصبح سُلالياً؟
كيف يؤمن بغاندي ويترحم على أدولف هتلر أيضاً؟
كيف يتخلى عن إنسانيته لصالح الوحش المسيطر داخله؟
نزلت من التاكسي وليس برأسي أجوبة.

نشر لدى السفير العربي بعنوان بين الوحش والإنسان

Disqus for TH3 PROFessional