الأحد، 15 سبتمبر 2013

اعيدوا لليمني حساسيته تجاه العالم واستشعاره للجمال

إن شعباً لا يقدر ثروته الطبيعية ولا يستثمرها من عاشر المستحيلات أن ينمّي ثروته البشرية
إنه موسم الرمّان. لكأنما فقد اليمني إحساسه بالعالم من حوله وتعطلّت حواسه ومستقبلاته العصبية شديدة الاستشعار. ويبدو أن كل هذه الخيبات السياسية والإهانات اليومية لحلمه بحياة كريمة أتلفت جهازه العصبي، وأضعفت حساسيته تجاه العالم وجماليته.
لا يميز اليمني بين الفصول الأربعة للسنة، ولا يدري ما إن كان في فصل الربيع أم الخريف. يعيش حياته كيفما اتفق وكأن تفاصيل حياته وروتينها اليومي، قضاءً وقدراً غير قابلة للنقض أو التعديل أو التطلع إلى الأفضل. الاستثناء الوحيد هو فصل الشتاء الذي يحظى باهتمام اليمنيين جملةً، وتندرهم وترحابهم الفاتر. ذلك أنه مرتبط بشكل مباشر بارتفاع أسعار القات. هذه الشجرة الزقومية الخضراء التي أنا أحد متعاطيها، ولا فخر. في أي فصل نحن الآن؟
الخريف أم الصيف أم اللافصل؟
كثير من اليمنيين، وأنا أحدهم، خارج حسابات الزمن. 
وليست هنالك أشجار ولا غابات في المدن، أما ومحافظو المحافظات ومحافظ العاصمة منهم، مهتمون فقط بالإسفلت ومناقصات الطرقات، فأنى لليمني أن يرى الأشجار وهي تخلع عباءتها الصفراء؟
 متى كانت آخر مرة رأيتم فيها وردة بالشارع؟
أنى لليمني أن يبتهج وهو المحروم من رؤية الحدائق؟
أنى لليمني أن يكوّن خبرةً بصرية جمالية عن فصول السنة وهو المختطف من هموم المعيشة اليومية وخنقتها، ويحيا في قرى تسمى مدناً، وتحمل تسميات وألقاب رنانة، فـتعز المدينة العطشى تسمّى عاصمةً ثقافية، وعدن المستباحة والمولعة بالعصيان المدني تسمى عاصمة اقتصادية. أما العاصمة صنعاء فغارقة في الظلام وقرأت البارحة في وسائل الإعلام عن غرق طالب في الإعدادية في مياه مجاري أثناء ذهابه للمدرسة.

وأين؟ في العاصمة!

اليمني محروم من جماليات كثيرة. محروم من الاستلقاء على العشب الأخضر، وتنشّق هواء طازج وغير مستخدم انتجته الأشجار لتوها. ولستُ أدري لم يرن في رأسي كلما مشيت في شوارع صنعاء وقت الظهيرة قول محمد الماغوط:
"ليس إلا الغبار يعلو ويهبط 
مثل ثديّ مصارع"

حتى أشجار السدر والأثل القليلة، والتي زرعت في عدد من شوارع صنعاء، في الثمانينات وكانت شاهقة، وتخفف من حدة شمس الظهيرة وتحد من زحف الغبار إلى حد ما، وتعتبر بمثابة تجمعات سكانية للمئات من العصافير، قُلعت كلها دفعة واحدة، واستبدلت بنوع لزج وقزم من أشجار الزينة لما كان أحمد الكحلاني أميناً للعاصمة.
منذ ذلك الحين استحقت صنعاء لقب عاصمة اشجار الفيكاس البلاستيكية!

يقول المسيح عليه السلام في عبارة جامعة:
"الربيع للعين.. والخريف للفم".

وفي القران الكريم إشارة نفسية عميقة إلى "حدائق ذات بهجة" كما لو أن علاقة عضوية تبادلية حتمية بين البهجة وبين الحدائق.

وهذا دقيق للغاية لكن تطبيقه الفعلي في الدول الغربية وليس في مركز بدر ولا في جامعة الإيمان ومجتمعاتهما ولا أي من المؤسسات والجامعات الدينية المحلية التي لا تشجع على الجمال وتربيته.

انظروا إلى مائدة اليمني وملبوساته:
يأكل في الصيف ما يأكله في الشتاء، أو حتى في الخريف وهو سلة الفصول الأربعة. فصول السنة الأربعة ليست سوى يوم واحد مكرور لدى اليمني!

وتصادف أحياناً من يرتدي "كوتاً" أو ثياب صوفية ثقيلة، في مدن كعدن أو الحديدة بحرِّهما الشديد وشمس الأولى الحارقة التي قال رامبو إنها أصابته بالتبلد.

وحدهم الريفيون والمزارعون ينتظرون مواسم الخصب وقدوم علّان بفارغ الصبر. الصيف عيدهم. أمطار الشتاء ليست رحمةً عادة. لطالما كانت وبلاءً وخراباً على اليمنيين وممتلكاتهم على مر التاريخ، حتى أن لحكيم اليمن علي ولد زايد أبيات شهيرة حول ذلك. لست أدري ما الذي أصاب ذاكرتي كما لو أنها ضُربت! لم أعد قادراً على استدعاء المعلومات المؤرشفة في الذاكرة بسهولة كما في السابق وكأنها أصيبت بعطب أو فيروس!

ما الذي أذكره الآن من أقوال علي بن زايد؟

ريح الخريف العوالي
والصيف شرقي هليله

ربما يتعين عليّ الاستعانة بـgoogle. حسناً:

 ياريت والله وصنعاء زوم
وقاع جهران ملوجة واحدة

قال ابن خولان حقّي صاحبي
ذي ما معه حقّ ما احد صاحبه

               **                  **
يقول علي ولد زايد
اهل الغنم يالمساكين

انْ تمطر
السبعْ والتسعْ
والا فتمطر سكاكين

               **                  **

 يا إلهي ما الذي أصاب اليمنيين؟

لماذا جفت أرواحهم وتخشّبت أحاسيسهم؟ لماذا صاروا متجمهين على الدوام وغاضبين وقليلو التبسم؟ وكيف بالله عليكم تطبّعوا بطباع الصحراء والبادية وهم أبناء الخضرة والطبيعة الخلابة والمجتمع الزراعي الحضاري؟

كيف استبدلوا الجنتين بشطرين "مُشططين"؟
كيف استبدلوا شجرة البن بالقات؟
واستبدلوا أروى بيت أحمد بـ
رؤساء القبيلة والعائلة؟

كيف صاروا جهلةً بالجملة يحقرون العلم ويمجدون حمل السلاح في الوقت الذي تحولت مجتمعات الخليج العربي من البداوة إلى التحضر والتمدن؟

اسمعوا أغاني الجيل الشاب من الفنانين والمطربين إن أراد أحدكم الاشمئزاز؟ ما هذه الرداءة العامة؟

أين روح الدعابة التي كانت في شعر الخفنجي من شعر اليوم الذي يزعم كاتبوه أنه حميني؟
أين نداوة وطراوة جملة ابن شرف الدين الشعرية؟
وأين تلك الخضرة الآسرة في أغاني الحارثي ومجتمع كوكبان المبدع؟

أميل إلى الجزم أنه ما من فنان من الكبار، يتنفس الطل والندى في أغانيه مثل أيوب. أيوب طارش بصوته وألحانه العبقرية والأستاذ النعمان بقصائده الأكثر فرادة وإبداعاً في الشعر الغنائي اليمني شكلا معاً ثنائياً مميزاً وفريداً وحالة يمنية فذة مشابهة لأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام في مصر، عدا أن أهم فارق أنهما لم يقدما منتجاً فنياً سياسياً كالثنائي المصري.

الأكيد أن أعظم وأهم يمنيين في القرن العشرين في تقديري الشخصي هما: أبو بكر سالم بلفقيه في الغناء،
وعبدالله البردوني في الشعر.

هل أقول ومحمد عبدالقادر بافقيه في التاريخ؟
بالتأكيد.

أعود فأقول:
لقد سقطت زهرة الجلّنار!

يا إلهي ما ألذ الرمّان اليمني، وما أجمل خيط ماءه المترقرق من الشفتين إلى الرقبة. اليوم أكلت رمّانة واحدة تزن نصف كيلو وما زلت منتشٍٍ بمذاقها حتى الساعة. كان أحد أعيان صعدة يرسل لي كل عام سلة رمان من مزارعه. هو الآن في صنعاء من نازحين ما بعد حرب صعدة الأخير، وما ترتب عليها من تغيير على الأرض في موازين القوى!

إنما رغم كل هذه الإحباطات ما زلت مؤمناً أن هذه أرض خير وعطاء.
أظنه الهمداني من أشار إلى حادثة شهيرة قديماً، عندما استيقظ سكان حي الروضة في ضاحية صنعاء والعصافير مرمية على الأرض وفي حالة غيبوبة وانتشاءة سُكر. 

إن عنب الروضة العادي يسكر ولما يزل معلقاً على الشجر.
لوز خولان أم رمان صعدة.
ماذا عن الزبيب الخولاني الألذ؟
ومن منكم خبير بمواسم الفلُّ اللحجي والتهامي؟

تبدو لي أحياناً الفاكهة اليمنية كما لو أنها الفاكهة المقررة على أهل الجنة. إنها ماركة إلهية. وهِبة الأرض الطيبة والمعطاءة، لكن المنكوبة بقادة أشقياء وسفهاء وليس لديهم أي ذوق أو خبرة جمالية!

هل أندب ما آل إليه اليمنيون؟

أين انت يا علي ولد زايد لترى:
لقد قدم موسم الرمّان وها هم اليمنيون في الشوارع متجهمون وعابسون! كيف لم يتصدر هذا الخبر نشرات الأخبار ومانشيتات الصحف؟ولم يخطف اهتمام عامة وخاصة اليمنيين؟

اين أنت أيتها الملكة بلقيس لترين أحفاد سبأ ومأرب وتبع وبناة الحضارة العظيمة وهم يمتهون اليوم الخطف وتخريب أنابيب النفط وأبراج الكهرباء التي تضيء مدناً بكاملها من أجل مطالب ذاتية خسيسة ودنيئة؟

أخشى أننا كيمنيين كنا ضحايا كذبة تاريخية جميلة، ووهم متوارث لاعتقادنا أن مملكتك العظيمة كانت هنا على أرض اليمن، وليست هناك في الضفة الأخرى من البحر الأحمر في أكسوم بالحبشة كما يدعي بعض المؤرخون!

وأين أنت يا أروى بنت أحمد الصليحي يا أول ملكة في تاريخ الإسلام ويا أعظم وأعدل من حكم اليمن لأكثر من نصف قرن: أين أنت لترين مدينتك جبلة مدفونة في الغبار والإهمال ومظاهر عصر ما قبل الدولة الذي كنتِ متقدمة عليه بزمانك عما نحن عليه اليوم. أنتِ التي حكمتِ اليمن سنة 481هـ قبل 1000 عام ولأكثر من نصف قرن من الاستقرار والتعايش وقوة الدولة، أين أنت لترين مدينة إب في عهدة القاضي وأبناء المشائخ والنافذين، الذين تقاسموا وسطوا على الأراضي والعقارات، التي أوقفتها للمِلْك العام وذكرتها واحدة واحدة، في وصيتك التي تعد وثيقة نادرة تحتوي، بمعايير الزمن المعاصر، أسس ومنهاج الحكم الرشيد.

يا إلهي
أنت على حق وأنتَ أنتَ الحق.
بلى: "وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"

إن شعباً لا يقدر ثروته الطبيعية ولا يستثمرها من عاشر المستحيلات أن ينمّي ثروة بشرية أو يصنع إنساناً عصرياً واحداً.

وحدهم الجهلة والقتلة وأصحاب مشاريع التخلف والتفرقة والكراهية المتسيدون في اليمن اليوم. وحدهم المتحكمون بمصير ومستقبل اليمن.


رحماك يا رب

هناك 3 تعليقات:

عبد الرحمن عبد الخالق يقول...

كم انت رائع ومدهش يا عبسي.. سلس الكلمة.. واضح العبارة.
تقود قارئك بيسر وسهولة وعذوبة إلى الهدف..
إن كان للفواكه مواسم.. فالعبسي فاكهة كل المواسم.
سلمت!
عبد الرحمن عبد الخالق

Unknown يقول...

شكرا لك يااستاذ
هذا من جمالك ورهافة روحك

كن بخير سيدي

أنيس ياسين يقول...

انت مذهل حقا..
يا لنقاء روحك وسلامة فطرتك!

Disqus for TH3 PROFessional