الاثنين، 28 أبريل 2014

مقالي في السفير العربي: الاقتصاد اليمني بوصفه ضحية الغارات الأمريكية!

محمد العبسي- السفير 
لو قصدتَ شارع جمال عبد الناصر أحد أكثر شوارع صنعاء التجارية ازدحاماً وحيوية من أجل شراء ملابس أو مجوهرات أو أية سلعة أخرى، أثناء انقطاع التيار الكهربائي، فإن شيئاً واحداً ستجده أمام جميع المحلات وكأنها طريقة ترحاب شارع الزعيم بضيوفه: أهلاً بكم في شارع الـ"مواطير".
وهذا الشيء الذي يدعوه اليمنيون بـ"الماطور" هو نفسه المولّد الكهربائي الذي اخترعه مايكل فارادي. إنه في كل مكان. إذا لم تشاهده أمام المحلات التجارية، فما من طريقة تحول دون تنشّق ما ينفثه من ثاني أوكسيد الكربون في ذرات الهواء. وإذا لم تشعر برائحته، أو تميزها، فليس بمقدورك التحدث عبر الهاتف، أو سماع رنينه حتى عند تلقيك اتصال، لكثرة وشدة ضجيج المولدات الكهربائية.

 لا يكاد يخلو بيت، أو محل، أو مستشفى، أو شركة من "ماطور". إنه أوضح دليل على عدم ثقة المواطن بحكومة يُفترض أنه هو، وفق العرف الديمقراطي، من يمنحها الثقة.
يذكّر "الماطور" اليمنيين يومياً بغياب الدولة وضعفها ويساعدهم على التكيّف السلبي معها وتقبّلها بأقل قدر من السخط، حتى أن انقطاع الكهرباء صار حدثاً عادياً لا يثير غضب اليمني ولا يستفزه وكأنه من فعل الطبيعة وأمر يحدث لأنه يحدث كغروب الشمس وهطول المطر والقضاء والقدر.
هكذا يحدث الأمر: مخرّب أو شيخ على بُعد (173) كيلو متراً من العاصمة، أو أقل، يقرر الاعتداء على الكهرباء لأي سبب من الأسباب، كاعتقال أحد أقاربه، أو رغبةً في الحصول على هبة حكومية، أو مقتل أقرباءه بغارة أمريكية، فيصوّب قذيفة، أو يطلق زخة رصاص على خطوط الضغط العالي، أو يرمي خطّافاً يُدعى "خبطة" على خطوط النقل، فتخرج المحطة الغازية فوراً عن الخدمة. وقبل أن يتلقى مشتركو وكالة الأنباء اليمنية رسالة إخبارية sms عبر هواتفهم تكون العاصمة قد غرقت في الظلام. لحظات وتُسمع حنْحنة المولدات الكهربائية. 
يكفي أن تسير في شارع جمال مسافة نصف كيلو من السفارة المصرية حتى ميدان التحرير وتفرعاته، لتتعرف على سلالاتٍ وأجيالٍ من الـ"مواطير"، وتحدثك نفسُك بأن كل حاوية قادمة من الصين إلى اليمن، عبر تجار يمنيين طبعاً، إنما تحمل مولدات كهربائية وكشّافات إضاءة بالضرورة.
كان "الماطور" قبل سنوات أمارة ترف ورفاهية في المجتمع اليمني. يكفي أن يُسمع صوته من أي منزل حتى يُستنتج أن مالكه إما مسئول في الدولة أو رجل أعمال. بيد أن الأمر اختلف منذ مقتل نائب محافظ مأرب جابر الشبواني في 24 مايو 2010م بغارة خاطئة لطائرة أمريكية يعاقب اليمنيون جماعياً بسببها. بعد أيام نشب قتال عنيف بين قبائل عبيدة، التي ينتمي لها الشبواني، وقوات الجيش وقصفت المحطة الغازية بالأسلحة الثقيلة، وغرقت صنعاء في الظلام أياماً. تلك كانت لحظة فارقة في حياة اليمنيين.
حتى ذلك الوقت كان انطفاء الكهرباء يحدث بشكل متقطع، وبمعدل ساعتين، بسبب العجز التراكمي في التوليد وزيادة الطلب سنوياً بنسبة 9%. منذ تلك الغارة صار انقطاع الكهرباء عادةً تحدث بفعل فاعل بالضرورة، وتحول إلى أداة ابتزاز وحرب بين الحكومة ورجال القبائل، بل وبين الغارات الأمريكية وتنظيم القاعدة.
انحنت الحكومة للعاصفة واعتذرت بالنيابة عن غارة واشنطن الخاطئة غافلة عن أنها بذلك إنما تحثّ كل من أراد تركيع الدولة فعل الشيء ذاته: ضرب محطة الكهرباء. وبالفعل، اندلع الربيع العربي بعد شهور وخرجت المظاهرات المطالبة بإسقاط النظام مطلع 2011 في مدن يمنية عدة، فصار ضرب محطة الكهرباء عادةً يومية ونوعاً من الإدارة بالأزمات يتبادل الاتهام بشأنه النظام والمنشقون عنه. تحولت  الكهرباء إلى وسيلة تعذيب وعقاب جماعي.
في كتابه (الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة) يذكر الصحفي البريطاني روبرت فيسك أن الأفغان العرب أول من نفذ عملية اعتداء على خطوط الكهرباء لتعطيل تحرك القوات الروسية في أفغانستان. انتقلت الفكرة إلى الجرائر وأصّلت الجماعات الإسلامية لها شرعياً لاستخدامها ضد الحكومات المحلية "الفاجرة". ومع الوحدة بين شمال وجنوب اليمن في مايو 1990، بدأت عودة المجاهدين والعرب الأفغان، ومعظمهم يحملون الجنسيتين اليمنية والسعودية، بالتنسيق مع نظام الرئيس السابق صالح وحليفته في الحرب الباردة واشنطن لاستخدمهم في حرب صيف 94م ضد شريك الوحدة: الحزب الاشتراكي اليمني.
رحل "الشيطان" الشيوعي فانفضّ الحلف بين الحكومة و"المجاهدين". وفي ديسمبر  1998 صدرت أحكام قضائية بحق عناصر من تنظيم جيش عدن أبين الإسلامي بتهمة التخطيط لهجمات ضد السفارة البريطانية. رد التنظيم بعد أيام باختطاف 16 سائحاً أصيب أربعة منهم أثناء مداهمة الجيش. في أكتوبر 1999م أعدم مؤسس التنظيم أبوبكر المحضار. وكانت تلك نقطة اللاعودة.
غير إن القاعدة لم تدرج حقول وأنابيب النفط اليمنية في قائمة أهدافها إلا في مارس 2002م أي بعد ثلاثة أشهر من أول غارة أمريكية استهدفت قائدها المحلي أبو علي الحارثي.
كانت القاعدة تستهدف المصالح الغربية حصراً (كول- لمبيرج- سفارات- اختطاف سواح- شركات نفط أجنبية). بعد الغارة الأمريكية شَرَعت القاعدة في "يمْنَنَة" هجماتها فصار أنبوب النفط، وسائر المصالح الحكومية، أهدافاً مشروعة.
وتلك الكارثة: اليمن داخلة في الخسارة لكنها خارج "الأرباح".
إن نكبة الاقتصاد اليمني الحالية تعود لغارتين أمريكيين: غارة الحارثي شرّعت استهداف أنبوب النفط، وغارة الشبواني شرّعت استهداف الكهرباء. بدليل أنه من بين 48 هجوماً للتنظيم بين 1992-2009م فإن هجوماً واحداً فقط استهدف محطة كهربائية، وخمس هجمات استهدفت منشآت نفطية حسب قائمة لمركز كارنيجي أعدها كريستوفر بوشيتك صدرت ضمن كتاب (اليمن على شفا هاوية).
6 هجمات إذن خلال 17 سنة مقابل مئات الهجمات خلال ثلاث سنوات (2011 و2014) بخسائر قدرتها الحكومة بـ4.7 مليار دولار. وهنا تتضح هشاشة العلاقات اليمنية الأمريكية وسلبيتها، ذلك أن مساعدات واشنطن لصنعاء خلال سنوات لا تكاد تغطي خسائر عام واحد في قطاع الكهرباء.
و"تدهور الوضع الأمني في اليمن هو نتيجة مشكلات لا علاقة لها بالأمن" حسبما يشدّد بوشتيك.
إن اليمن وباكستان في طليعة الدول الشريكة بالحرب على الإرهاب، وأكثر دولتين تنتهكهما الطائرات الأمريكية في العالم لكن "مساعدات واشنطن لليمن عام 2009م 27.5 مليون دولار فقط، مقابل  1.8 بليون دولار لباكستان عام  2008".
وفي كل مرة تُضرب الكهرباء يتساءل المواطن اليمني لم لا تستهدف الطائرات من دون طيار المخربين؟ بدلاً عن ذلك يسقط مدنيون وأبرياء في الغارات الأمريكية، كما في موكب عرس في رداع، فتزداد الأمور تعقيداً ويكتسب تنظيم القاعدة، والجماعات المسلحة، المزيد من التعاطف.
لقد تغيرت أمور كثيرة خلال الثلاث السنوات الماضية: غادر رئيس وجاء آخر، رحلت حكومة وحلّت أخرى، وذهبت القوى السياسية إلى مؤتمر الحوار، وتغير شكل الدولة من دولة بسيطة إلى مركبة، لكن الشيء الوحيد الذي لم يتغير هو: الاعتداء شبه اليومي على محطة الكهرباء الذي بدأ إثر غارة أمريكية خاطئة كردة فعل وصار عادة. والعادات السيئة يصعب الإقلاع عنها.

نادى شباب الثورة بإسقاط النظام. غير إن المبادرة الخليجية وبمباركة أمريكية حصّنته وحمته من السقوط. وحدها محطة مأرب الغازية سقطت، أو تكاد، ومعها اقتصاد اليمن.

 * كاتب صحفي من اليمن

عن السفير العربي
http://arabi.assafir.com/article.asp?aid=1786&refsite=arabi&reftype=home&refzone=slider

ليست هناك تعليقات:

Disqus for TH3 PROFessional