ضد نصيحة "الأستاذ"!
محمد العبسي
بدأ العالِم البيولوجي والمكتشف الشهير
"دافيد كايلن" مسيرته العلمية بدراسة علم الحيوان في باريس. كان المشرف
على رسالة الدكتوراه قد نصح كايلن بدراسة الأعضاء التناسلية لدودة الأرض وقد عمل
كايلن بنصيحة "الأستاذ"، باعتباره يفوقه علماً ومكانة، وشرع فعلاً في
دراسة دودة الأرض.
في إحدى الأيام، وبخلاف المنهج المقرر، "حمل
كايلن إلى أستاذه دودةً أتلف أحد الطفيليات أعضاءها التناسلية" والأستاذ،
كعادته، لا يبخل في تقديم النصائح للتلميذ فنصح تلميذه كايلن "برمي الطفيلي
وعدم إضاعة وقته عليه والمثابرة على دراسة الدودة باعتبارها موضوع أطروحة
الدكتوراه". لكن كايلن، هذه المرة، رمى "الأستاذ" ونصيحته عرض
الحائط وفعل العكس: "رمى الدودة ودرس الطفيلي".
هذا القرار الشجاع غيّر حياة كايلن. إن أهم
الإنجازات العلمية في مسيرته كانت بسبب رفض الوصاية. قال له الأستاذ إن عليه دراسة
الدودة لكن صوتاً داخلياً في أعماق كايلن قال العكس: ادرس الطفيلي. وقد فعل. لم
يكترث كايلن لا بنصيحة الأستاذ ولا برسالة الدكتوراه التي كان قد قطع منها شوطاً، واستمع
لشخص آخر: صوته هو. صوته الداخلي. الصوت الموجود في أعماق كل واحد منا لكنه مقموع
لأننا نصغي للأستاذ ولم نفكر يوماً فِي الإصغاء لذواتنا. وأظن بوذا القائل: (كل
إنسان إله. كل إنسان يعرف كل شيء، ولكننا بحاجة فقط إلى أن نفتح أذهاننا كي نتمكن
من الاستماع إلى حِكمنا الخاصة).
يقول المدير السابق للبيولوجيا في مجلس البحوث
الطبية بكامبردج: "لقد فتح الطفيلي عيني كايلن على سلسلة من الاكتشافات التي
جعلته من أشهر علماء البيولوجية، فاكتشف أن يرقانة الذبابة وضعت بيوضها في دودة
الأرض ففقست اليرقانات وأكلت بعدئذ الدودة وأهمية هذا التفسير العلمي أنه "حل
معضلة دورة حياة الذبابة".
سمعتُ انفجار مياه سد مأرب وتطاير حجارتها وأنا
أقرأ عبارة: "حل معضلة حياة الذبابة"!
هؤلاء يصرفون أعمارهم على دراسة دورة حياة
الذبابة ونحن في الوطن العربي، إجمالا، لم ندرس حتى دورة حياة الإنسان (في اليمن لقي
2833 شخص مصرعه، عام 2008م، في حوادث سير متفرقة حسب تقارير الداخلية بمعدل وفاة 8
يمنيين يومياً)! هؤلاء يصرفون أعمارهم في دراسة دورة حياة الذبابة ونحن نصرف
أعمارنا نقاشاً حول توافه الأمور وسفسافها.
علّق مكتشف بنية هيموغلوبين الدم ووظيفته،
الحائز على نوبل للكيمياء عام 1962م، الألماني ماكس بيروتز على تجاهل كايلن لنصيحة
أستاذه بالقول: "يقودني هذا إلى توجيه نصيحة إلى العلماء الشباب: لا تأخذوا بأي
نصيحة ينصحكم بها الأكبر منكم سناً". ويضيف في كتابه (ضرورة العلم) الصادر عام
1999م دون تقمص دور الأستاذ: "وبما أني أصبحت الآن أنا الأكبر سناً (مواليد
1915) لربما عليكم ترك نصيحتي هذه أيضاً أو على الأقل فهم مفارقتها".
"أستاذ" كايلن واحد. أما عندنا فهم
بالعشرات وبأسماء كثيرة: كالشيخ والمعلم والأب، بل إن أهم تجليات الأستاذ في حياة العرب،
اليمنيين خاصة، تظهر تحت يافطة "القائد الرمز البطل".
كفى بالمرء بلادة أن يُلقن منذ طفولته أمثلةً
من قبيل: "أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة" فيعيش حياته وفق الخط البياني
الذي رسمه له الآخرون سلفاً! لو عمل كايلن بنصيحة الأستاذ ودرس دورة الأرض لما صار
فيما بعد كايلن المكتشف. لو عمل بالنصيحة لكان هو الدودة لا دارسها فحسب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق