محمد عبده العبسي
هذا إذن ختام المرحلة الأولى من حملة لون
جدار شارعك. بودي لو أنها لم تختتم وواصلت تدفقها العفوي. كانت عدوى السياسة غير الحميدة قد انتقلت إلى
جدران الشوارع في صنعاء كما في عدن ومدن أخرى. "ارحل" في شمال صنعاء "لن
يرحل" في جنوبها. "ارحل يا علي" في كرتير، "ارجع يا علي"
في المعلا. ارحل يا سفاح هنا، ارحل يا نهاب الأراضي هناك...هكذا
كنت أغتم كثيراً عند مروري بجوار جدار
وزارة الأشغال في جولة كنتاكي بلونه الترابي وملمسه الخشن كحياة اليمنيين. أتذكر فورا
صورة فوتوغرافية لشاب قتل، في أيام كنتاكي السوداء، وبقيت جثته محتجة هناك يوماً
أو يومين جوار تلك الكمبة الخشبية التي لطالما مسح عليها أحدهم لعاب أنفيه. لعلها
جثة بائع الزعقة أو ربما بائع جيلجلان. المرور جوار هذا الجدار يذكرني، لا أدري
لم، بالتجهم والدبور الذين يلاحقا اليمنيين منذ انهيار سد مأرب.
جدر يمن سبيس في شارع الزراعة هو الآخر
مفزع. كان مثقباً مثل المنخل من أثر الرصاص. انظروا إليه اليوم. توشك الرسوم أن
تتحرك. أن تقفز أمام السيارات وتخرج لسانها للمارة. أن تتمشى في شوارع صنعاء التي
لم تصل إليها اللجنة العسكرية بعد رافعة إصبعها الوسطى. يا إلهي كم تسكن روحي وأرضا
عن نفسي عندما أرى جدارية فاتنة في جولة كنتاكي دون عليها أسماء اليمن القديمة
بعدة لغات وعبارة (أنت من بلد الحضارة). وهذا عزاء الفشلة والمخفقون أمثالي.
قبل شهور من الآن كان للفكرة متحمس واحد
فقط. اليوم انظروا حولكم. إنهم أمة.
لم أكن أتصور قط ولا حتى في الأحلام الوردية
أن تحقق حملة لون جدار شارعك نصف ما حققته حتى الآن من نجاح وتفاعل كافة شرائح المجتمع.
هي عدوى اللون إذن. إنه الاحتجاج بالجمال. أظنه وصفا مختزلا، وربما ظالما، للحملة الأشهر
والأكثر سلاسة وعفوية. إنها أجمل وأوسع وأنزه حملة جمالية عرفها المجتمع اليمني وعاصمته
صنعاء. نوع فاتن من التعبير عن الوجود الشخصي بالألوان، بالرسم، بالشخبطة، باللغات
اليمنية القديمة، بل بكل ما له علاقة بالبراءة والجمال.
تعيش اليمن تنافساً شديداً على التعبير السلبي
عن الذات والوجود إنما بطرق سامة وأساليب غير شريف ومزيفة في الغالب. هناك في هذه الفترة
من يعبرون عن وجودهم بعقد مؤتمرات داعين إلى قيم جميلة ومبادئ نبيلة ليست فيهم أصلا
ولا يظهرون أي نوع من الحساسية تجاهها أو أن لديهم رغبة في التغيير وأن يكونوا
غداً ما يدعون إليه اليوم. هناك من يعبرون عن وجودهم بالرصاص ومنطق السلاح والقوة ولغة
التخوين وما أكثر الذين يجعلونك تقول هذا زمن الأوغاد.
هناك من يعبرون عن وجودهم بالتسابق على بيع
أنفسهم وعرض خدماتهم لدى من يدفع من الطرفين بالغالي والرخيص، في الداخل أو الخارج،
لا فرق ولا تفاضل في الارتزاق والسحت. يوجد أيضاً صنف ممن يعبرون عن وجودهم هنا في
الفيس بوك بتأدية دور السفيه المناضل والشتام البطل. آخرون يعبرون عن وجودهم بالخروج
في مسيرة إلى حيثما اتفق، أو بالنوم والأكل في ساحة اعتصام، أو بتأدية دور أم حبيب:
حمالة الحطب. والعينات كثيرة. وأسوأهم على الإطلاق أولئك الذين يعبرون عن وجودهم، أو
يدافعون عن مشاريعهم، برفع قميص عثمان والمضاربة بالدماء: دماء الشهداء، دماء جامع
النهدين، دماء جنود منصة السبعين، بطريقة رخيصة وكاذبة تثير الاشمئزاز خاصة وأن
أبطالها طرفان تقاسما للتوا الكعكة ووقعا اتفاقية دولية لدى المملكة التي تدفع مرتباتهم
جميعا ولا يعصون لها أمراً.
هناك من يعبر عن وجوده بطبع صورة أسامة بن
لادن على غلاف هاتفه أو شعار الموت لأمريكا). مرة اذكر أني مررت في الساحة جوار شاب
يحمل هاتفه بيده ومشغل زامل "ما نبالي ما نبالي" وكأنه يقول للمارة ومن في
الخيام (انظروا أنا حوثي). نفس هذا الغباء، إنما بدرجة أسخن، عندما كانت اللجنة
التنظيمية تنظم مسيرات داخلية في الساحة للتضامن مع شعب سوريا وفيها متطوعين يحملون
لافتات كتب عليها صعدة!! الله والفن. منذ وقت طويل لم تعد ساحة ثورة وإنما ساحة مناجمة
وجوارب. وما جرى اليوم إنما هو عراك يقع بشكل يومي في الساحة بين عدد أقل ولا يصل
إلى الإعلام.
مؤخراً كانت المضاربة الانتخابات
الرئاسية المصرية. شيء يفطر القلب. ثوار اليمن زعلانين وضد وصول مرشح الفلول أحمد
شفيق للرئاسة. وكأن المرشح للرئاسة في اليمن خرج للتوا من الساحة ولم يكن نائباً
للرئيس 17 عاماً ووزيرا للدفاع وأحد قادة حرب 94م. بل إنهم لشدة مزايدتهم قالوا وقتها
إن من يصوت لهادي فهو مع بقاء صالح!! شيء عجيب.
بين هذه الأكوام النافقة، والضمائر الفاسدة تبدو حملة لون جدار شارعك وحدها
تغرد خارج السرب. إنها دعوة بريئة للجمال وحسب. ليست موجهة لأحد دون أحد. لا تغذي أحقاداً
ولا تدعو لعنف. لا تسوق لطائفة أو لعائلة أو لحزب ولا تحث على كراهية أحد في فترة
تجد الجميع حاملين على ظهورهم حقيبة الذكريات السيئة.
أذكر أول بوست نشره العزيز مراد سبيع هنا
في الفيس بوك. بدا لي يومها وهو يدعو سكان عاصمة جوانية الطبع وخرجت للتوا من حرب الحصبة
وكنتاكي ومنقسمة إلى نصفين كما لو انه شخص حالم أكثر مما يجب. كدت أشفق عليه أما
اليوم فأشفق على نفسي. حتى الآن لم استوعب النجاح الجبار الذي حققته الحملة والذي ما
كان ليتحقق باعتقادي لولا نقاء سريرة مراد وصدقه ومثابرته العظيمين ومساندة أخيه
نبيل. من قال إن كل الأفكار العظيمة تنجح من
تلقاء نفسها. الأفكار العظيمة بحاجة إلى أشخاص عظام بالضرورة وقد فطن لهذا الجاحظ حين
قال إن المعاني مطروحة على الطريق يعرفها العربي والعجمي.
كان لدينا في المؤسسة فكرة مشابهة لمشروع
الرسم على أرضيات وجدارن المدارس. في اليوم التالي لنشر مراد البوست أخبرته بشكل غير
مباشر عن ما كنا ننوي القيام به وكأنني أقول له "أفسدت علينا الشغلة"!!.
بعد أيام شاهدت مراد بالصدفة يرسم على جدار
في جولة كنتاكي. طلبت من سائق التاكسي التوقف ونزلت للسلام عليه. كان إلى جانبه 3 شبان
وكان وجهه يشع حماساً وصدقاً وكأنه المسيح في موعظة الجبل. يومها شعرت بالخجل. مراد
تحمس لفكرة نبيلة وتفرغ لها ومنحها وقته وجهده دون أن يفكر في أي مردود أو مقابل مادي
مع أن ذلك مشروع بل ومطلوب أحياناً. الشيء الوحيد الذي فكر فيه مراد هو إضفاء لمسة
جمالية على حياة وشوارع اليمنيين. بينما كنا نفكر نحن بالحصول على مكسب مادي والحصول
على تمويل!! صعدت التاكس وأنا اشعر باستسخاف نفسي. ما أسوأ أن يكون المرء مادياً.
يامراد لقد نجحت لأنك صادق ونقي وما كانت
الحملة لتحقق هذا النجاح لو كنت مرائياً أو ماديا أو غشاشاً حاشاك. إنما تستطيع أن
تقول يا صديقي إن الناس أحيانا يرون بعين طبعهم.
إن كان في اليمن مؤسسات مثل بلدان
العالم كانت لتختار مراد سبيع شخصية هذا العام. لقد أحدث تغييرا هائلاً في المجتمع.
وليس أي تغيير. فكم من تغيير بشع وإقصائي وبلون البارود بينما تغييره جمالي لا نظير
له.
شكرا لك يا مراد أنت ورفاقك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق