إنه الكونجرس وصيته.
ولولا إلقاء الصديق العزيز فارع المسلمي مادته المؤثرة عن
الطائرات بدون طيار في جلسة استماع خاصة بالكونجرس، مثل الغعلامي المصري يسري
فودة، لما أهتم اليمنيون به ولا بما طرحه فيها من قضية ملحة وكأن الرأي العام اليمني
يسمع "طائرة بدون طيار" للمرة الأولى والفضل يعود لفارع.
قبل شهر ونصف قرأ علي فارع المسلمي مقاله المنشور في صحيفة
إنجليزية ما، والذي ألقى معظمه قبل أيام، على هيئة شهادة في الكونجرس الأمريكي. التقيت
بفارع أول مرة في منزل الصديق ماجد المذحجي ثم تعرفت عليه عن قرب في القاهرة بورشة
عمل عن اليمن نظمها المعهد الملكي البريطاني مع مؤسسة رنين وأوكسفاوم وشاركت فيها
شخصيات مهمة من صناع القرار في العالم وما كنت لأدخل مع كثير منهم في أحاديث
جانبية لولا إنجليزية فارع المدهشة حتى أن بوسعي القول أنني لم يسبق لي أن شاركت
في ورشة عمل بهذا المستوى الرفيع من الإعداد والدقة والمشاركين النوعيين والقدرة
على التعبير والمشاركة وإيصال أصواتنا، نحن اليمنيون المنعزلون، إلى أناس كثيرون
في هذا العالم يتوقون إلى سماعنا.
كان فارع نجم ورشة العمل بامتياز. في اليوم الأول شبه المرحلة
الانتقالية بالتيتانيك فارتجت القاعة، ارتياحاً وتاييداً، وإذا بمعظم المشاركين،
وهم ممثلين للاتحاد الاوروبي والبيت الأبيض وكارينجي ومؤسسات رفيعة أخرى، يستشهدون
كل بطريقته بـ"تيتانيك" فارع المسلمي. وهكذا كان يلقي سنارته في كل جلسة
على مدى ثلاثة أيام. يطلق تشبيهاً يبدو بسيطاً، لكنه حاضر في ذهنية الغربي، فيتحول
إلى نقطة إجماع واستشهاد في النقاش.
في اليوم الأخير قلت له، متبرماً، إن هؤلاء الغربيين رغم
مناصبهم الرفيعة، والمعلومات الغزيرة المتوفرة لديهم إلا أن فهمهم لمشاكل اليمن
سطحي للغاية ومُعلب. إنهم كمن يتعرف على مدينة من خلال كتالوج سياحي في المطار. وضربت
له مثلاً موضوع الهيكلة. وللتدليل أكثر قلت له بطريقته وأسلوبه التشبيهي: إنهم
يتحدثون عن الحوار الوطني كما لو أن لديك فريق كرة قدم فاشل لكنك تعتقد أن أداءه سيتحسن
أوتوماتيكياً بمجرد استقدام لاعب كـ"ميسي" أو كريستيانو إلى صفوفه. توقف
فارع مذعوراً وصرخ في جهي: الله يلعنك! ليش ما قلت هذا الكلام في مداخلتك وتعقيبك
أمس! حكيت رأسي وأدركت مدى غباوة كلمتي المسكونة بذهنية يمني يتكلم في مقيل قات أو
في مجمع للغة العربية الفصحى!
كان من المقرر أن أغادر الفندق في اليوم الأخير مع أربعة
آخرين باعتبارنا حضرنا كضيوف شرف! (وزيران من حكومة الوفاق ومحافظ ونائب رئيس هيئة
وأنا الفقير إلى الله) بينما سيبقى فارع وبقية الشباب يومين إضافيين لحضور دورة
تدريب.
عزمت على قضاء أيام إضافية في القاهرة في فندق العربي
بالمنيل. وبينما أنا أجر حقيبتي وأهم بمغادرة الفندق أوقفني فارع في الريسبشن
طالباً مني المكوث معه في غرفته، ولو لليلة، بدلاً عن استئجار غرفة بفندق. وكشاب
ذكي ومتقمص للشخصية الأمريكية لم ينتظر ردي. جر الشنطة وقال تعال! لم أقاوم ولم
يبدو علي الانزعاج. مشيت خلفه للتأكد من سعة الغرفة واحتواءها على سريرين. ما إن
فتح باب الغرفة حتى أدركت أني سأقضي ليلتي هنا. لا لأسباب مالية فحسب –على اعتبار
أنها ستخرج على هيئة تكسيات إلى وسط البلد- وإنما حرصاً على الصحبة ورفقة السفر خاصة
وأن في ذات الفندق الذي يبعد عن وسط القاهرة ساعة زمن الصديقين الرائعين سهل
الجنيد وعلاء قاسم. إلى جانب الزميل العزيز محمد الحكيمي الذي كان يقضي رحلة
عائلية، بالصدفة، وقبضت عليه نزيلاً في فندق سعر الليلة فيه 200 دولار!!
في المساء وبعد تسوق مرهق في أحياء القاهرة القديمة عدت
إلى الغرفة قبل فارع فنمت على الفور. في الثانية وصل هو ففتحت له الباب وارتميت
على السرير ونمت. ثم فجأة، ومن دون سبب أو مؤثر خارجي، استيقظت فجراً وإذ بفارع مقوس
على الكرسي أمام جهاز اللابتوب. كان متسمراً يحدق في الشاشة بامعان من يوشك أن يدس
جسمه ويلج إلى داخل الشاشة.
كنت بالكاد أراه فيما النوم يغشاني ثانية ويفقدني القدرة
على التركيز. "عادك صاحي" قلت ولاحظت بينما عاودت التدثر باللحاف أنه في
غاية الانتشاء والبهجة كمن تلقى للتو أخباراً الكترونية سارة.
-
"باترقد"
قال بنبرة محتج لا مستفهم.
-
فطنت إلى
رغبته في الحديث فقلت "يعني".
في الحقيقة أراد أن يشاركني جوه فقال دعني أقرأ لك مقال لي
نشر مؤخراً وأحدث ضجة في تويتر!
لم أكن متأكداً ما إن كان فارع جاداً أم يمزح.
الآن!
لم يسبق لي أن استيقظت فجراً لأسمع صديقاً يقرأ لي مقالاً
يظنه هو فاتناً وجبارا بينما ظننته أنا في قراراة نفسي، ولم الكذب، مقالاً عادياً رغم
إلحاحه علي مراراً أن مقالاتي عن أمريكا وغاراتها في اليمن لطالما كانت أكثر ما أثار
إعجابه (ما زلت أعتبرها حتى الساعة مجرد إطراء صديق ونوعاً من اللطف واللياقة أكثر
منها حقيقة).
لم يكد ينهي فارع الفقرة الثالثة من المقال إلا وقد سرق اهتمامي
كله وبدا مستمعاً بقدرته على جعلي أنهض من نومي وأجلس في وسط السرير. هزني المقال بشدة.
وضوحه وصدقه والمزج الرهيب بين العاطفة والسياسة والدين وكيف أن والدته هددت خطيب الجمعة
في قرتيه بوصاب بعد سماعها عن الأمريكان من ابنها. اللعنة! لم يكد ينتهي من قراءة المقال
إلا وأنا واقف بجواره وقد انجذبت إليه أكثر عندما علمت أنه من وصاب وكأننا في
داخلنا نستكثر على منطقة وصاب أن تنجب شاباً في نجابته ونجاحه. على الإطلاق لم يسبق لي أن قرأت مقالاً بهذه الروعة والسلاسة
حول موضوع شديد الحساسية ومن السهل أن تدمغه الأيديولوجيا وتوجه أفكاره مسبقاً.
صباح اليوم التالي فاجأني فارع كثيرا. أيقظته ودخلت الحمام للاستحمام وحين خرجت كان جالساً على الكرسي أمام جهاز اللابتوب يدندن بحميمة فلاح قروي بأغنية لأيوب طارش (وكأني كنت أتوقع أن شخصاً مثله لا يطرب إ لمايكل جاكسون).
حين عدت من القاهرة متأخراً أياماً على عودته كان مقال فارع
المسلمي قد نشر مترجماً في موقع محلي. فأعدت نشره هنا في حائطي المتواضع على
فيسبوك في تاريخ 18 مارس الشهر الماضي إيماناً مني بأهميته واستشعاراً بنقاوة هذا الصوت وفرادته.
قبل أسبوعين من الآن تلقيت فجراً رسالة sms من فارع يسألني ما إن كنت صاحياً أم لا ليستفسر حول
جزئية ما. ثم إنه قال لي بجدية تامة انه قديسافر لحضور جلسة استماع في الكونجرس في حال منحته
السفارة الامريكية التأشيرة فلم أخذ كلامه على محمل الجد فقد كنت ساعتها أنتظر
مثله تأشيرة عبور إنما أخرى: النوم.
ثم كان ما كان وإذا بفارع يتحول إلى أهم حدث في الراي العام.
أنا سعيد يا صديقي بوصول صوتك، بل صوتنا جميعاً،
إلى الكونجرس وكلي ثقة أنه سيحدث فارقاً في مراكز صناعة القرار الأمريكي. هذا مؤكد
شرفتنا يا صديقي
هناك 3 تعليقات:
لقد استمتعت كثيراً بقرأة تفاصيل رحلتك وكانني انا من عاشها ، لايسعني الا ان نشكركم انت وفارع المسلمي واتمنى لكما التوفيق والنجاح
بالفعل..
شكار عزيزي منصر.. لطف منك قول ذلك
إرسال تعليق