كنتُ أجلس فِي الصف الأول الابتدائي بالمقعد الأمامي أمام السبورة مباشرة. لا
لأني بسطت على الكرسي أولاً، كما يفعلُ طلاب المدارس الحكومية مطلع كل عام دراسي. وليس
لأن والدي وهو الأميّ موجّه فِي وزارة التربية والتعليم فاستغل نفوذه. لقد كان الأمر
قائما على التنافس بين جميع طلاب الفصل.
قالت المُعلّمة الفاضلة (هناء محمد المبنّن) مُعلمتنا فِي الصف الأول الابتدائي
بمدرسة خالد بن الوليد فِي أول يومٍ دراسي: "إن توزيع الطلاب على المقاعد سيكونُ
بناءً على قوّة حفظهم لجدول الضرب. بحيث أن الأول في حفظ الجدول يجلس في الكُرسي الأول..
والثاني في الحفظ يجلس في الكُرسي الثاني.. والثالث يجلس في الكُرسي الثالث.. وهكذا بعدلٍ ومساواةٍ وتنافس حتى آخر الفصل.
طريقة في منتهى الذكاء والعدل لحبّ جدول الضرب ونحته في الذاكرة. ولخلق مناخ
تنافسي خلاق بين الطلاب للفوز بالمقعد الأول. وقد كنتُ أحدهم.
انقضى العام الدراسي الأول كأجمل ما بقي في الذاكرة. لا أذكر من جميع من درسوني
طوال اثني عشرة سنة اسم معلم أو معلمة كما أتذكر الأبله هناء.
فِي السنة التالية (ثاني ابتدائي) ذهبتُ إلى المدرسة بنفسيّة متفائلة وواثقة.
نفسية من يحبّ القراءة والكتابة والواجبات المدرسية ويؤمن بالمثابرة وأن من جد وجد
ومن حفظ جدول الضرب جلس في المقعد الأول.
دخلتُ إلى الفصل لم أركض مثل بقية الطلاب لأحجزَ مقعداً أمام السبورة. كنتُ
واثقاً من أنني سوف أُجلَسُ في المقدمة لأنني أحفظ جدول الضرب جيداً. لذلك ذهبتُ مطمئناً
إلى مؤخرة الفصل فِي انتظار دخول المُعلّمة هناء المبنن
لكنها لم تدخل!
لم تدخل هي. ولم أجلس أنا. وكأن العام مر عليّ واقفاً.
قلتُ ستأتي في الصفّ الثالث لتدرّسنا. لكنها لم تأت لا في الصف الثالث ولا الرابع
ولا.. ومرت الأعوام حتى آخر سنة دراسية الصف الثالث ثانوي! وأنا على ما أنا عليه الآن:
واقفاً في آخر الفصل.
لا بل جالساً في مقعد أستحق أفضل منه!
لقد انتظرتُ طيلة أثنتا عشرة عام دراسي مُعلّماً يضعُ جدولَ الضرب أو القسمة
أو أي مادة تنافسية بين الطلاب معياراً يوزع على أساسه طلابَ فصله هكذا: الكُرسي الأول
للطالب الأول.
والكرسي الثاني للثاني.
والثالث ثالث..
وهكذا..
انتظرتُ الأبلة هناء في المدرسة فلم تأت.
انتظرتُ الأستاذة هناء في الجامعة فلم تأت أيضاً.
انتظرتُ الأستاذة هناء في كرسي الوظيفة فلم تأت أيضاً.
هذه إذن هي مأساة دول العالم الثالث:
إن الطالبُ الأول لا يجلسُ وهو المُستحق على الكرسي الأول:لا في المدرسة ولا
في الجامعة ولا في قائمة البعثات الدراسية.وان الموظّف الأول لا يُعيّن في الكُرسي
الأول. والقائد العسكري الأول لا يُعيّن في الكُرسي الأول. وعلى هذا فقِسْ حتى أعلى
كُرسي في البلد.
** **
ألف مبروك لأوائل الجمهورية في الثانوية، وبخاصة الطالبة اسماء نبيل العديني
الاولى في الجمهورية بالقسم العلمي والطالبة حنان الخزان حفيدة أمين حزب الحق حسن زيد،
الأولى في القسم الأدبي. مبروك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق