الثلاثاء، 11 مارس 2014

قارورة ميرندا لقبر أخي عادل

حتى الماضي
يمكنُ تعديله مثل النص.
أنا الآن أمام ضريحك. لا الشمسُ بيمناي ولا القمر يساري. وليس أمامي وورائي غير طريقٍ شاقٍ أمضي فيه وحيداً. من يسكت هذا الصرصور؟ منذ دخلتُ المقبرة وهو يصفِّر بحماس فيُعمّق إحساسي بالوحدة
تتبعها ضربات فؤوس!

وحدي
الآن أمام ضريحك.
أنت وأمي جيران يا عادل. بينكما بضعُ قبورٍ. أختي في الجهة الأخرى. أترى يا عادل كيف تجمَّعت العائلة هنا في المقبرة وكانت أشتاتاً خارجها؟
**               **
لن أقلق نومك يا عادل. جئتُ فقط لأسدد بعض ديوني. جئت لكي أعدّل بعض أمور حدثت في الماضي. ماضينا:
أنت وأنا.
أسقّي قبرك بزجاجة "ميرندا" وأعود!


ما كنتُ لأفعل يوم الجمعة.
أنى أتفادى نظرات الناس الاستنكارية وعيوناً ترشقني بحجارتها.
عيب.
كان ليبدو ذلك جُرماً في مجتمعٍ يتأذى وتُحرم فيه القبلة وتمجّد، بالعكس، الطلقة.
الريحانة
سيدةُ نبات المقبرة
أتدري يا عادل كل الأشياء
من الممكن أن تستخدم أكثر من مرة.
أترى تنكَ السّمن الفارغ حولك؟
إنه يستخدم ثانية في المقبرة
فيوضع داخله غصنُ
شذابٍ أو ريحان
كأنه مزهرية!
كذلك أيضاً روح الإنسان
تستخدم مراتٍ عدة. أو تسكن أكثر من جسد. هذا حالُ الموتى.
أنا متأكد أن لديك الآن عمل!
ولعلك يا عادل أكملت دراستك العليا.
**               **
أكنت تظنُّ بأن يأتي يوم نتبادل فيه مواقعنا؟
كأن أنزل تحت أنا، تصعد أنتَ إلى فوق!
ألستَ المتفاءل وكنتُ أنا المتشائم؟
أنتَ المتبسّم وأنا المتجهم؟
كنتَ تطيع أبي صغيراً
وأنا كنتُ المتمرد
ومن يتلقى
الضرب!
كنتَ شديد الإقبال على الدنيا وأنا عكسك. كنت ودوداً مختلطاً بالناس، وكنتُ أنا العكس (ربما ما زلت!)

أمان
يا عادل أمان
فالصياد
يصوّبُ بندقه
نحو سرب طيور وحمامٍ
لكن أرأيت غراباً مثلي هدفاً
للصيادين؟ كنت جميلاً يا عادل ومحب.
وكل جميل مرغوب. حتى في قائمة "ملاك الموت"!
هذا حال الدنيا يا أخي
الموت وسيلة جذب
الماضي حاضر
والغيبُ كرمية نرد.
أنا عاصفة في دولاب! 
**               **
هل تذكر قصة مشروب الميرندا؟

كنا صغاراً يا عادل.

نلعب
في الشارع
دون حساب للوقت
أو خوف عقاب في البيت.
نتبارزُ بسيوفٍ من عيدان القات
نركضُ من غير حذائين
ونشرب من فم
الحنفية
 
كنا صغاراً يا عادل.
بريئان ولكن شقيين. أنا أكثر.

أحياناً
كنا ننقضُّ
بوحشية جنرالات
الحرب على بيت النمل
نعذّب صرصوراً بالبانيو رشاً بالماء
وكأنه متظاهر بشوارع تونس أو صنعاء أو القاهرة.
نتسلى بالإمساك ببشّارات العنب
ثم نحبسها في قارورة ماء فارغة
وفي كل يوم نمسك واحدة
أو أكثر. ثم نرميها
وسط القارورة
ونغلقها.
ثم..
نرجُّ القارورة
وكأنها مشروب غازي
إلى أن وُبّخنا في يوم من أمي فشعرنا بالخجل! وما زلت. هكذا يتغذى القاتل في الإنسان!
غفرانك
يا رب الكرْم
ومرسل بشارات العنب
اغفر لي ولأخي. لا أدري كيف لطفلين بريئين ومن عائلة غير مسلحة أن يكتسبا هذا القدر من العنف؟
هي اليمن بلاد الكَرْم وعاشقة الكلاشينكوف!
**               **
كنا صغاراً يا عادل
نقلّد أصوات أقاربنا والجيران
ونسقط بالكرة ثياب حبال الغسيل.

كنا صغاراً يا عادل.
كان اليمني أطيب. والعالم أرحم.
وجدي يستمتع بوشيش الراديو وينادي:
يا ولدددددددد

هل تذكر رائحة الخبر الطاوة؟
هل تذكر طعم الهيل
في الماء المشروب
من الحنفية؟
أو لعق
السكّر
بلسانينا؟
هل تذكر أيضاً جلسات الرسم؟
كنا نرسم بالقلم الجامد أو
بطباشير الفحم على
أيدينا ووجهينا:
كلا.
إني لم أنس
يا عادل يوم رسمتُ
على ساعدك الأيمن ساعةَ يد وأنتَ رسمتَ على ساعدي إسورة ثم اشترقت من الضحك ولم أفهم ما القصة حتى عيّرني أولاد الحارة أني أنثى
فبكيت وذهبتُ لأشكوك إلى أختي إيمان.

أتدري.
بنتك رائعة.
أجمل بنت في الكون
تستيقظ أحياناً من عز النوم
وتقول بلهجتك القروية: "أشا حقين"
**               **
والآن أتذكر قصة مشروب الميرندا؟

كنا نلعب في الصالة.
أنا في السادسة وأنت ابن العاشرة.
خالي احضر لكلينا قارورة ميرندا مع بسكويت ماري. كانت فرحتنا لا توصف. ذلك أنى لا نشربها إلا في الأعياد وما ندر. كنا محدودي الدخل. وبدلاً من إفراغ المشروب بكأسين، سمحتَ بطيبتك المعهودة أن أشرب من فم القارورة على أن أبقي نصف المشروب. وبالفعل، شربتُ أنا أولاً.
بعد قليل
كانت قطع البسكويت تعوم بوسط القارورة وكأنها بجعات بحيرة!
بكى عادل.. جنّ
أخذ يلاطم بيديه ممشى الصالة
ويعفر جسمه فوق بلاطه. لن أنسى أبداً
منظره. وبدلاً من تعنيفي من قبل شقيقاتي ضحكن بشدةٍ وبراءة فتيات ممتدحات ذكائي. أقسم أني لم أقصد. لكن أغرتني الضحكات فتقمصت الدور: دور الطفل الحاذق وتجاهلتُ بكاء أخي عادل وشربت القارورة كاملة.
**               **
يا عادل
هذه عاشر قارورة
ميرندا أسكبها فوق ضريحك
فهلا سامحتني يا أخي الطيب أرجوك؟
إني أتذكر تلك الحادثة كلما آلمتني بطني أو شعرت بمغض وكأنه عقوبة ذنب الميرندا!
                       **               **
ليس صحيحاً أن ما فات مات.
كلا
فالغيب
وأحداث الماضي
يمكنُ تعديلهما كالنص.

حتى
الذكرى المؤلمة
يمكن تعديلها أو تحسينها
أو أن نستعرضها ذهنياً عشرات المرات
مثل مقاطع فيديو، أو قرص CD. يمكن أيضاً أن نتدخل في الأحداث.
فالماضي يتغير إذ تتغير نظرتنا له.

حتى الموتى
يمكن أن نستدعيهم
أن نشرب معهم فنجان القهوة
أو نسهر للصبح. وأن نتعارف أكثر.

صنعاء 7/12/ 2010م

ليست هناك تعليقات:

Disqus for TH3 PROFessional