يحاول حسن الشرعبي الوقوف على قدميه مجدداً. افتتح مطعماً صغيراً للعصيد والرز والفاصوليا بجوار المستشفى الجمهوري بتعز. كان يمتلك مطعماً في الحبيلين منذ قرابة عشرين عاماً يقدم بالإضافة إلى الوجبات السابقة أطباقاً عامرة من الحب ودماثة الأخلاق لزبائنه وللجنوبيين بشكل خاص، ولم يساوره أدنى شك وهو يشتري أرضية ويبني بيتاً ويأخذ عائلته من البلاد أنه سيأتي اليوم الذي يمنح فيه 48 ساعة للمغادرة، ويكتشف أن المسافة التي تفصل شرعب عن أي مدينة غربية أو شرقية أقرب بكثير من الحبيلين.
كنت أستمع بوضوح لبراكين القهر والغبن التي تتفجر في أعماقه وأشاهد سحب المرارة السوداء ترتسم على محياه وهو يحدثني، وكيف أنه دفع الثمن غالياً لفكرة استعادة دولة الجنوب للمعاملة اللاإنسانية والمضايقات التي بدأت بمسلحين يأكلون في مطعمه ويرفضون دفع الحساب أو يحاسبونه بنظرات كراهية وألفاظ نابية زادت وتيرتها في السنوات الثلاث الأخيرة. تحمل الشرعبي وغيره من الشماليين صنوفاً شتى من الإذلال والقهر حباً في الجنوب المزدهر في قلوبهم. يقول الشرعبي- الذي تحول إلى جنوبي صوتاً وصورةً في حي الجمهوري بتعز- إن أبناء تعز بالذات كانوا في البداية "راكنين" لكونهم الأقرب إلى الجنوب من كل النواحي (هو قال ما فيش فرق نهائياً بين تعز وأي منطقة جنوبية بالذات عدن ولحج والضالع)، والأهم من ذلك أنهم أبرياء تماماً مما تعرض له الجنوب من نظام علي عبدالله صالح.
فجأة وجدوا أنفسهم عالقين بين جبهتي صراع يقودها انتهازيون عديمو الأخلاق والإنسانية، حين أخذت الممارسات العدائية تزداد حدة وتتطور إلى عمليات قتل وإحراق محلات وإطلاق الرصاص المباشر بلا سبب، غادر الحبيلين شماليون كُثُر بعضهم يعيش فيها من قبل الوحدة. بدأ الخوف يتعاظم في نفس حسن الشرعبي وكان يتابع جلسات الحوار الوطني بقلق وتوتر بالغين ويحاول البحث لدى كل أبناء الجنوب عن ما يعتقد أن سنوات طويلة من العيش والملح معهم ستوجد له استثناءً إنسانياً. ما كان يزيد من تبدد الآمال في نظره كما يقول هو تخاذل السلطة المحلية وصمتها حيال ما يجري، وكأن الأمر يحدث بمباركتها. انفضّ مؤتمر الحوار الوطني دون أن يمنح حسن الشرعبي ضماناً للعيش في الحبيلين، فوجد نفسه تحت رحمة مهلة 48 ساعة للمغادرة كآخر شمالي في الحبيلين، باع البيت بثمنٍ بخس وأغلق المطعم مغادراً وحده وعيناه تذرفان دماً، وفتح جرحاً مجانياً في وجدانه يصعب إغلاقه.
حاولت مواسياً تذكيره بأن الجنوبيين مدينون له ولشرعب بالذات لكون عبود الشرعبي أحد أبرز الأبطال الفدائيين في حرب تحرير الجنوب، لم يغب ذلك عن بال حسن كما كنت أعتقد. أطلق تنهيدة ردد صداها جبل صبر قائلاً إن عبود الشرعبي أول من غادر الجنوب، لقد طُمس تاريخه البطولي بعنصرية ظالمة، لم تعد ترفع صوره في كل فعاليات الحراك الجنوبي وحتى في ذكرى ثورة 14أكتوبر الذي هو عنوانها الأبرز. كل ما استطاع تأكيده لي أن الحبيلين أصبحت محررة من الشماليين، وأنه يبحث في وطنه عن وطن.
كلنا مثلك يا حسن نستجدي المجهول أن يمنحنا كرامة أن يهبنا وطناً.
عن المصدر أولاين
هناك تعليق واحد:
لا اكثر من التعبيلا و هذه الكلمات مشكووووور.
العاب اون لاين بدون تحميل
إرسال تعليق