أ ف ب |
اتصلت بي خالتي المقيمة في المملكة السعودية
لتسألني عن الحرب، فهممت أن أقول لها، بصيغة استنكارية، أي حرب؟ تذكرتُ على الفور
رواية (التائهون) آخر أعمال الروائي
اللبناني أمين معلوف لكني منعت نفسي من الاستجابة الغريزية للسؤال. واجهت صعوبة في
سرد التفاصيل وإعطاءها صورة أمينة عما يجري دون إفزاعها أو تضليلها. قلت لها نحن
نسمع دوي الانفجار دون أن ندري أين وقع ولا كم خلّف ضحايا لكنه بعيد. لم تكن تلك
محاولة نبيلة لطمأنتها بقدر ما هي الحقيقة.
في الواقع لا يسمع سكان
ميدان التحرير وشارع الزبيري مثلاً، على بعد أربعة كيلومترات، ما نسمعه نحن. وبينما
يعرض الباعة بضائعهم على الرصيف ويقف عجّان الخبز أمام الطاوة وتمتلئ المطاعم
بالناس بشكل طبيعي في وسط العاصمة تبدو صنعاء خالية من سكانها وأشبه بمقبرة كلما
اقتربنا من أطرافها الشمالية والجنوبية.
تبعاً لذلك تقترب أصوات
القذائف، كأنها في الحي المجاور، وتبتعد. مدير عام مؤسسة الكهرباء السابق كان
ماراً بسيارته في شارع الثلاثين جنوبي العاصمة فأصيب بعيار ناري في فخذه. لم تكن
إصابة قاتلة لكنه ظل ينزف حتى مات. المفارقة أنه أصيب برصاصة من مسلحي الحوثي، حسب
الرواية الأكثر تماسكاً، لكن نيران جنود الدولة هي التي أجبرته على الاختباء لوقت
طويل وحالت دون إسعافه إلى المستشفى. هل نسمّيه شهيد الجُرعة السّعرية ومطلب تغيير
الحكومة الذي حشد الحوثي لتحقيقه، ولو بالقوة.
لا تنتهي مشاهد الحرب. لكن
أكثرها إثارة للهلع الخارجي مشهد احتراق أحد مباني التلفزيون الحكومي الذي سقط،
بعد معارك دامت ثلاثة أيام، في قبضة مليشيات الحوثي. أحمد الخرساني شاب مقبل على الحياة
دفنته تحت الأنقاض مع جدّته قذيفة عمياء.
وفي 17 سبتمبر أيلول استيقظ
الأهالي على جثث عشرات الجنود، قتلهم الحوثيون، ظلت ملقاة على الشارع العام طوال
الليل وحتى العاشرة صباحاً في منطقة ضلاع شملان المدخل الشمالي للعاصمة. تلك الصور المفزعة التي نقلتها القنوات
الإخبارية لا شك أنها سبب فزع خالتي.
أنهيت المكالمة ووجدتني
متحفزاً للعودة إلى رواية أمين معلوف. لدي إحساس ما أن الصورة التي لم أتمكن من
نقلها لخالتي موجودة في الرواية. سحبتها
من الرف ولكوني استخدم علامات ولواصق إرشادية ملوّنة أثناء القراءة لم يستغرق
الأمر سوى ثوان حتى فتحت على الصفحة المطلوبة. لم أكمل الصفحة الثالثة حتى تيقنت
أن أنسب وصف للحرب الدائرة في صنعاء موجود هنا في سرد معلوف وأبطال روايته حول الحرب
اللبنانية. "إن الأشخاص الذين عاشوا هنا طوال تلك السنوات لا يقولون أبداً
"الحرب". إنهم يقولون "الأحداث". ليس فقط لتجنب الكلمة
المخيفة وإنما لأن الحروب كانت كثيرة".
ذات الشيء في اليمن. بدلاً
عن "الأحداث" -وهي التسمية التي أطلقتها المبادرة الخليجية لوصف الثورة
الشبابية في 2011م- يُطلق الشارع اليمني على جميع النزعات المسلحة خلال عامي 2013م
و2014م تسمية "مواجهات" من باب التلطيف والتمييز، ولكونها كثيرة.
متزامنة ومتتالية، وفي مناطق متفرقة. مراتٍ تحدث داخل نفس المدينة، ومرات أخرى في
أكثر من محافظة ومنطقة وقرية: همدان، بني مطر، وآنس، حاشد، دماج، مواجهات محافظة
الجوف، وقبلها معارك مدينة عمران، وصولاً إلى الحرب الدائرة في محيط وداخل أحياء،
وفي أطراف وضواحي، العاصمة صنعاء في سبتمبر أيلول الجاري.
يستطرد معلوف في معرض
حديثه عن الحرب اللبنانية: "لم يكن المتحاربون أنفسهم ولا التحالفات نفسها
ولا الزعماء ولا المعارك نفسها. في بعض الأحيان كانت النزعات تحصل بين طائفتين،
وأخرى داخل الطائفة الواحدة. كانت الحروب تتوالى وأحياناً كانت تتزامن".
الشيء نفسه في اليمن مع فروق
طفيفة وجسيمة بالطبع.
لنتوقف عند بعض التفاصيل. بالنسبة
لسكان شارعي الزبيري وهائل بوسط العاصمة، في سبتمبر 2011م، وامتداداتهما الفرعية
إلى القاع وحي جامعة صنعاء، فإن "حربهم" ليست هي ذاتها حرب سكّان منطقة
الحَصَبة بشارع المطار - وامتداداتها إلى أحياء صوفان والنهضة والتلفزيون- على
بُعد نحو ستة كيلومترات رغم تزامنهما. لهذا السبب تطلق على كل واحدة تسمية تميزها
عن الحرب الثانية. كانت الأولى حرباً عسكرية خالصة. فرقتان عسكريتان إحداهما
موالية للنظام (الحرس الجمهوري) والأخرى للثورة (الفرقة أولى مدرع)، بينما أخذت الحرب
الأخرى طابعاً ميليشوياً وقبلياً إلى حد كبير. فقد كانت بين مسلحي الشيخ الأحمر
وجنود الفرقة من جهة، وبين وحدات عسكرية نظامية ومسلحي مشايخ موالين للرئيس
السابق، سواء من المنافسين التقليديين لبيت الأحمر داخل قبيلة حاشد، أم من قبيلة
بكيل كالشيخ عزيز صغير.
بعد سنوات سيقاتل أبناء
الشيخ الأحمر جنباً إلى جنب مع الشيخ صغير في خندق واحد مليشيات جماعة الحوثيين.
وهكذا ولت حرب وجاءت أخرى ولكل حرب حلفاؤها وخصومها. اجتمع الحوثيون وحزب الإصلاح
وآل الأحمر على مطلب إسقاط النظام في 2011م. بعد تنحي الرئيس السابق تقاتلوا في
أكثر من مدينة ومحافظة.
"وجود الشيطان يوحّد
قلوب المؤمنين"!
كان الشيطان عام 2011
الرئيس صالح وفي 2014م صار الشيطان الجنرال المنشق عنه علي محسن. تتبدل تحالفات
الحرب إذن ويتبدل دور "الشيطان" في كل مرة. وحدهم السكان المحليون لا
يغادرون موقع الضحية.
بالنسبة لسكّان أحياء
(صوفان والنهضة ومنطقة التلفزيون) الشيطان هو الحرب ذاتها وليس صالح ولا محسن ولا
أيّ من أطرافها. صحيح أن مواجهات سبتمبر 2014م تبدو أقل شراسة من مواجهات سبتمبر
2011م، لكن الأخيرة أكثر استدعاء للنزعة الطائفية والمذهبية، وأقلّ استجابة
للسياسة ومنطقها. كانت تلك حرباً سياسية وصراعاً داخل أجنحة الحكم، بينما تأخذ هذه
طابعاً مذهبياً وثأرياً (وتذكرة إلى الجنة!) لكونها بين مليشيات جماعة الحوثي
(أنصار الله)، التي تتمدد بقوة السلاح وأنعشت الجُملة الدينية في المجتمع، وبين
وحدات من الجيش كانت تابعة للجنرال المنشق علي محسن الأحمر.
في هذه الجولة تقترب الحرب
اليمنية إلى حد ما من الحرب اللبنانية. بل يمكننا القول، بصورة أعم، إن جميع
النزعات المسلحة خلال عامي 2013م و2014م تأخذ طابعاً مذهبياً ودينياً بين سنة
وشيعة، وشكلاً من أشكال تنافس الدول والصراع الإقليمي بين إيران والسعودية بخلاف
مواجهات 2011م. حتى حروب صعدة الست (2004م- 2010م) لم تستفز النزعة الطائفية
والمذهبية، وتوقظ الكراهية النائمة في نفوس الناس، مثلما فعلت حروب حاشد ودماج
وعمران التي رُفعت فيها، من كلا الطرفين، لافتات وعناوين مقيتة من قبيل (أسد
السنّة وقاهر الروافض وقتال الدواعش والتكفيريين).
توجد وجوه أخرى للشبه على
مستوى التفاصيل اليومية. تروي سمير أميس إحدى أبطال رواية معلوف كيف "كانت
القذائف تسقط من حولي ولم أكن أدري إذا كنت سأظل حية حتى اليوم التالي، فيما كانت
الأمور هادئة على بعد عشرة كيلومترات، وأصدقائي يتشمّسون على الشاطئ. وبعد شهرين
تنقلب الآية، فيختبئ أصدقائي وأكون أنا على الشاطئ. لم يكن الناس يأبهون لما يجري
قربهم، في ضيعهم، في شارعهم. والوحيدون الذين يخلطون بين هذه الأحداث المتمايزة،
الوحيدون الذين يشيرون إليها في تسمية واحدة، والوحيدون اللذين يسمعوننا خطباً عن
"الحرب"، هؤلاء هم اللذين عاشوا بعيداً عنها".
الوحيدون إذن لدى معلوف،
هي ذاتها خالتي.
لمعت هذه الفقرة في ذهني
لسبب آخر. في سبتمبر 2011م اضطرت وأسرتي لمغادرة سكننا القريب من مناطق القتال في
حي الحصبة، وقضينا أسابيع متنقلين بين منزلي صهريّ في شارع الستين ومنطقة شملان.
الآن قلبت الآية واضطر صهري إلى مغادرة منزله في شملان حيث المعارك عنيفة، والمجيء
إلينا رغم أن دوي المدافع ما تزال قريبة وتهتز بسببها نوافذ المنزل إلا أننا
مطمئنون، أو هكذا نظن، أن منزلنا ليس في مرمى القذائف خاصة وأنه ليس بجوارنا منشأة
حكومية ولا سكن أحد أمراء الحرب. لكن القذائف عمياء ولا تفرق. وكل الذين قتلوا في
مواجهات الأيام الماضية اعتقدوا أنهم بمنجاة من القذائف العمياء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق