كمن يذيب قطعة سكر بحجم بطيخة في كوب شاي صغير: أمك ماتت!
عظم الله أجرك أخي العزيز
علي جاحز. تلقيت النبأ المفجع ولا أدري كيف وجدتني استعرض شريط ذكريات حميمة لي معك.
تذكرت على الفور ابنتيك زينب وأم كلثوم بخجلهما المحبب. تذكرت زيد ابنك الذي تفاجأت
به في آخر زيارة وقد يفع وتفتحت شقاوته وتألمت بشدة لادراكي جيدا معنى أن يفقد المرء
أمه في مقتبل الحياة. الموت فاجع يا أخي. يعيدك دوماً إلى نقطة الصفر. يكسر شوكتك ويذكرك
بضعفك كإنسان. قد يفلح في أن يسلبك القدرة على الاندهاش بالحياة والاستمتاع بها والتخطيط
لها. إنه ضد الخطط, ضد ما ترسمه لنفسك وعائلتك. كأنه يغار إن فكرنا بالمستقبل دون حسبانه.
يا إلهي كيف يدمر الموت في لحظة ما ينوي المرء عمله.
لقد ذكرني مصابك بمصابي الذي
كنت فيه الى جانبي ولست الآن إلى جانبك. لقد فسدت أخلاقي. هل تذكر يا علي؟ أظنه العام
2002 كنت وقتها قد تخرجت من الثانوية العامة ولما أزل صغيراً لطيفاً. لم يكن لدي هاتف
محمول وقتها. كانت امي مريضة وقد أرادت أن تغيير جو فقضت شهرين في منزل اختي التي لحقتها
بعد سنتين فقط: أترى؟ كنت محظوظاً وموفقاً كوني كنت قريبا منها للغاية وقضيت معها شهرين
كاملين كما لم يتح لي ذلك حتى في بيتنا: ننام سويا ونأكل سوياً ونتحدث لوقت طويل بخلاف
اللحظات العابرة التي كنا نسترقها في البيت. إلى جاء القدر على هيئة الزميل عابد المهذري
الذي كان لديه عدد من الصحيفة ويريدني ان اشاركه في تجهيزه. وبالنسبة لشاب تخرج لتوه
من الثانوية فقد كان عرضا مغريا. اخذني معه ثم في التاسعة مساء أثناء توصيلي الح على
ان نبقى سويا. توقفت في جولة سبأ واتصلت بأبي في المنزل وسلمت عليه ثم اتصلت ببيت اختي
فسألني صهري عن أحد الأدوية ثم كلمت أمي لأقل من دقيقة قلت لها إن زميلي يريدني ان
ابقى معه فأذنت لي عن طيب خاطر من يريد انهاء المكالمة سريعا من اجل تجهيز حقيبة السفر
رفقة ملك الموت. في عصر ذلك اليوم كانت "خاورة" قات بلدي وبروست ولولا عشرة
الف ريال من العزيز عابد ما كنت لألبي رغبتها. اذكر فرحتها حتى الآن. وأظن امتناني
من عابد هو السبب في عدم رفضي المكوث معه ليلتها. قبلتها وخرجت ولم اعد من ذلك اليوم.
هناك في الحصبة وتحديداً في
الساعة الواحدة بعد منتصف الليل شعرت بانقباض وقلق شديدين يشهد عليهما الزميل عابد
المهذري الذي اجتهد بنبل من أجل طرد هواجسي وقلقي اللاإرادي. نمنا وان كنت أقطع جازماً
انني سهران منذ عشرة أعوام.
في الحادية عشر ظهراً كنا
في طريقنا لتناول الصبوح. لم افكر بالاتصال لا ادري لم. استيقظت بلا بديهية ولا فطنة.
كنت كمخبول. شاردا معظم الوقت. ذهبنا لصلاة الجمعة في جامع بجولة سبأ. راقتني خطبة
الإمام الذي لم يفاجئني حسن جمله وانتقاءاته. كان العلامة عباس حمود المؤيد. يومها
قال حديثاً أفزعني. شعرت كما لو انه ترك من في الجامع وتوجه بالحديث إلي حاصة. قال
على المرء ان يكتب وصيته قبل ان ينام لئلا يموت دون ان يوصي.
ودارت العجلة.
كنت شاردا في المقعد الامامي
لسيارة بينما صنعاء قد اقتلبت في البحث عني. ماتت أمي في الواحدة بعد منتصف الليل.
وصل خالي وخالتي من تعز والقرية في العاشرة صباحا. وجاء اقارب لي من محافظات عديدة
بينما انا مختف طوال ذلك الوقت. ذهبوا للبحث عني في صحيفة اللثورة التي بدأت الكتابة
فيها بانتظام من أول ثانوي. اتصلوا بأصدقاء كثر وبحثوا عني في كل مكان. وحين استيأسوا
كان لا بد من دفن والدتي في صلاة الجمعة. هنا رفض أبي وقال لا يمكن دفنها دون أن يراها
محمد. الا انه بد الحاح الجميع وعدم تفويت أجر صلاة الجمعة والعدد الكبير من المشيعين
لجنازته قبل على مضض. في الساعة الثانية ونصف نقل أسامة ساري النبأ إليك يا علي جاحز.
انت وحدك كنت القادر على إيجادي وهاأنذا عاجز عن فعل شيء سوى فعل التذكر هذا بالكتابة.
اتصل علي بعابد الى جهاز البيجر.
كنا قد عزمنا، انا وعابد، على الذهاب الى الصحيفة. وكنت قد فكرت في كتابة مادة ووجدت
حلولا بصرية لمعالجة الصور في العدد. عاد عابد من الكبينة مسودا. قال سنذهب للثورة
لرؤية زميل ثم نذهب الى الصحيفة وانا كما كنت طوال الوقت شارداً كمن لطمته صاعقة دون
أن يأخذ باله!
وصلنا لباب المؤسسة. فتحت
انت واسامة باب السيارة وقمتما بعناقي فاستغربت منك ذلك كوننا التقينا قبل أيام. وفي
الطريق بين الجراف وشارع تونس كان علي يحاول تذويب النبأ، وهو العارف بمدى تعلقي بأمي،
كمن يحاول إذابة قطعة سكر بحجم بطيخة في كأس شاي صغير. إلى أن فجر النبأ أسامة قبل
أن نصل بقليل. ظننته يمزح مع ان ملامحهم لم تشيء بالمزاح. كان على السيارة ان تلف حتى
أتأكد من زحام السيارات وأبناء عمومتي وخالي أن النبأ صحيح. فايز ابن خالتي اول من
تلقاني من السيارة. قاومت حتى وصلت الى درج جيراننا. دخلت هناك واختبأت وراء الباب
وبكيت. ورغم انها دقائق إلا انها كانت كعمر. سرعان ما قوطعت خلوتي وكنت متيقنا أن تأجيل
البكاء عليها أفيد.
كنت أبكي على شيء آخر لا عليها.
لقد عانت كثيراً وانما اجتهدت وثابرت حتى أريحها بضع سنوات. لم يكن لديها الكثير الطلبات
سوى القات وعقداً ذهبياً قيمته عشرة الاف باعته، مع اشياء أخرى كثيرة، عندما انتكس
والدي وظهر عليه عجز مالي في مؤسسة الحبوب. كانت شديدة التعلق به لأنه من أمها وشديدة
التحسر عليه. وكنت دوما اقول لها ما قريب سيتم تثبتي في مؤسسة الثورة التي كنت قد تعاقدت
فيها قبل شهور قليلة. أنا أشعر بالحقد على التوقيت. لو تأخرت شهوراً كان من ان أعالجها
على حساب المؤسسة بعد أن أكون موظفاً رسمياً. أما كان ينبغي أن يتأخر عزرائيل قليلاً.
وكادت هذه الهواجس أن تدمرني.
بعد سنتين ورغم أني تثبتت
في الوظيفة الا ان كل شيء صار بلا قيمة. كرهت الوظيفة والناس والنفاق وقسوة القدر.
وتركت كل شيء حتى الوظيفة وعشت 7 اشهر من العزلة التامة. أقسى فترة في حياتي وأخصب
فترة. أنا مدين لهذه الفترة ومنتكس من آثارها غير المرئية في نفسي وطباعي. هكذا فجأة
وجدتني أدمن عادة سيئة جيدة: زيارة المقبرة ليلاً.
ثلاث ليال من 2004 قضيتها
في المقبرة ممددا على قبرها. تحتي هي وفوقي السماء التي لم أكن لأفهمها، أو أتقبل قراراتها،
لو لم أرمي بنفسي في تهلكة النوم وسط مقبرة جار الله في شارع العدل. لقد خرجت من تلك
المقبرة، التي فيها امي واختي وأخي الوحيد، لأدخل مقبرة أوسع وأشد إثارة للرعب من تلك
التي فيها أمي والتي ذهبت إليها زوجتك يا صديقي علي.
دمت بخير وقبلاتي لأبناءك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق