ماجد المذحجي |
تبدو هذه المواجهة القانونية التي موقعها محكمة الصحافة والمطبوعات التي هي بالواقع محكمة استثنائية واتهمت في العهد السابق بأنها ذراع قضائي للسلطة لقمع الصحافة مختبراً للتحول الذي قد يحدث في وظيفة القضاء، خصوصاً وأن الجهة الشاكية مقربة لأكثر الأحزاب نفوذاً في اليمن حالياً ويترأسها وزير العدل ذاته، وهو ما يثير مخاوف مشروعة عدة من وجود تدخل وضغوط قد تمارس على المحكمة، على الرغم من أن القضاء نظرياً مُستقل عن السلطات التنفيذية حتى لو كانت وزارة العدل ذاتها ذات الصلاحيات الادارية الواسعة على الجهاز القضائي.
"التشهير حق حين يكون موجبا".
هذه المقولة شكلت عنوانا للتضامن الحاصل أخيرا مع وزير العمل السابق في لبنان شربل
نحاس في القضية التي رفعتها ضده شركة سبينس على خلفية مواقفه المؤيدة لنقابة العاملين
فيها في مواجهة ما عده "وسائل ترهيبية" تعتمدها هذهالشركة. والمقولة نفسها
تصلح كعنوان لقضية صحيفة الأولى في اليمن على خلفية نشر تحقيق يفضح الفساد الحاصل في
توزيع الهبات الطائلة التي تلقتها جمعية خيرية مقربة من السلطة لتقديم العلاج لجرحى
الثورة. المسألة المطروحة على محاكم البلدين ليست مسألة حرية تعبير وحسب، هي قبل كل
شيء مسألة مواطنة وحق مشاركة في الشؤون العامة. فهل يقر حق المواطن في فضح كل ما يخالف
الصالح العام، أم يتحول تحريه عن هذا الصالح الى جرم مؤداه تهميشه وخفت صوته؟ (المحرر).
ماجد المذحجي
في تاريخ 22–4–2013، عقدت أول جلسة في محاكمة
صحيفة الأولى اليومية ممثلة برئيس التحرير محمد عائش، والصحفي المستقل محمد عبده العبسي،
وذلك أمام محكمة الصحافة والمطبوعات في العاصمة اليمنية صنعاء، وذلك على خلفية نشر
تحقيق صحفي لهذا الأخير تحت عنوان "الملف الاسود لتجار الثورة". وقد تناول
التحقيق الفاسد الحاصل في استخدام أموال خارجية استلمتها جمعية الاصلاح الاجتماعية
الخيرية وأطراف أخرى من الهلال الأحمر القطريبقيمة تزيد عن مليوني دولارا أميركيا شهريا
لعلاج جرحى الثورة.
وتحظى هذه المحاكمة باهتمام كبير: فعدا
أنها أولى وقائع محاكمة الصحف والصحفيين في المرحلة الانتقالية وبعد الثورة الشعبية
في اليمن عام 2011 في قضية عامة، فان للقضية المطروحة (علاج جرحى الثورة) قيمة رمزية
عالية لاتصالها المباشر بالثورة الشعبية، خصوصا أنها قد اشتعلت في الآونة الأخيرة مرارا
بسبب الاهمال الذي لقيه هؤلاء وسط شائعات عن فساد هائل في التبرعات والتمويلات الخارجية.
كما أن هوية طرفي الدعوى تزيد من أهميتها: فالمشكو منهما هما صحفية وصحفي معروفان باستقلاليتهما
وهما من الصحافيين الأكثر متابعة على المستوى العام، والشاكي من أكبر الجمعيات الخيرية
في اليمن وهي مقربة من حزب التجمع اليمني للاصلاح الاسلامي، أحد أطراف السلطة بموجب
المبادرة الخليجية، ويرأس مجلس ادارتها وزير العدل الحالي في حكومة الوفاق الوطني القاضي
العرشاني.
وقد جاء في التحقيق المشكو منه أن الجمعية
احتكرت علاج الجرحى في مستشفى العلوم والتكنولوجيا المقرب أيضاً من التيار الاسلامي
وهو ما ترتب عليه وقائع فساد مختلفة عمد التحقيق الى تفصيلها. وقد نفت الجمعية هذه
الاتهامات من خلال شكواها مطالبة بتعويض قدره مائة مليون ريال يمني، اي ما يعادل
465 الف دولار امريكي، عن الأضرار التي تعرضت من جراء ذلك. واعتبرت نيابة الصحافة والمطبوعات
ما ورد في هذا الملف الصحفي "سباً وإهانة للمجنى عليها جمعية الإصلاح بأن اسندت
إليها وقائع جارحة لو كانت صادقة لأوجبت عقابها قانوناً واحتقارها عند أهل وطنها وبما
يخدش شرفها واعتبارها بهدف الترويج والتشهير الشخصي إخلالاً بواجبهما الصحفي"[1].
وما هو واضح في نص الاتهام أن النيابة ترى أن الوقائع الجارحة في هذا العمل الصحفي
مردها الرغبة بالترويج والتشهير الشخصيين.
وعلى الرغم من أن الوقائع الواردة في الملف
الصحفي هي اتهامات صريحة بالفساد لجمعية الاصلاح "المجنى عليها في قرار النيابة"
تترتب عليها مسؤولية جنائية كما جاء في ادعاء النيابة نفسه، فقد وجهت النيابة أصابع
الاتهام فقط للصحيفة وصاحب التحقيق متبنية مجمل أقوال الجهة الشاكية ومتهمة اياهما
بالترويج والتشهير الشخصيين، وكأنما الجرم لا يقع بسرقة أموال المتبرعين والتي تغاضت
النيابة العامة عنها بالكامل انما في المراقبة والنقد وفضح السرقة والاختلالات ووقائع
الفساد وكل ما هو مصلحة عامة؛ بل كأنما المسألة مسألة مشاعر شخصية ونوايا خير وشر وليست
مسألة وقائع بحاجة الى نفي أو اثبات. فاذا صح ما تقوله صحيفة الأولى والعبسي، فلا مجال
للتفتيش بنوايا التشهير الشخصي لديهما، حتى ان وجدت هذه النوايا فهي محل للتخمين لا
امكانية فعلية للتحقق منها. ويكون عليهما للتبرؤ من الشكوى اثبات ما لديهما طالما أن
الطرف المُتهم أنكر الاتهامات الموجهة اليه وعدها تلفيقا وكذبا، فيما تنحصر مهمة القضاء
والنيابة في التحقق من كون الطرف الصحفي في القضية يملك ما يسند الوقائع المنشورة لديه
لا التفتيش أو التشكيك في نواياه.
يقول دفاع الصحيفة في رده على الدعوى العامة
من قبل النيابة أن "التهمة المنسوبة لموكلينا في دعوى النيابة هي ارتكاب جريمة
السب والاهانة واستندت في ذلك الى مقاطع من المقال المنشور في الصحيفة وبالنظر الى
تلك الاقوال محل التهمة تجدونها لا تتضمن أية الفاظ أو وقائع جارحة وفقاً للمتطلب القانوني
لقيام جريمة السب والاهانة فضلاً أنها نشرت في المقال بناءً على أدلة تؤكد صحة أغلب
ما ذُكر"[2]وأوضح الرد على دعوى النيابة "ان الوقائع المذكورة في دعوى النيابة
العامة ليس فيها ما يجرح الشاكية أو يهينها فضلاً عن أنها وردت بناءً على تقارير وأخبار
منشورة من عدة جهات اعلامية مقربة منها وهو ما يجعل من دعوى النيابة مخالفة للقانون"[3].
بعيداً عن نصوص الدعوى العامة وردود الدفاع
عليها في هذه القضية، تبدو هذه المواجهة القانونية التي موقعها محكمة الصحافة والمطبوعات
التي هي بالواقع محكمة استثنائية واتهمت في العهد السابق بأنها ذراع قضائي للسلطة لقمع
الصحافة مختبراً للتحول الذي قد يحدث في وظيفة القضاء، خصوصاً وأن الجهة الشاكية مقربة
لأكثر الأحزاب نفوذاً في اليمن حالياً ويترأسها وزير العدل ذاته، وهو ما يثير مخاوف
مشروعة عدة من وجود تدخل وضغوط قد تمارس على المحكمة، على الرغم من أن القضاء نظرياً
مُستقل عن السلطات التنفيذية حتى لو كانت وزارة العدل ذاتها ذات الصلاحيات الادارية
الواسعة على الجهاز القضائي.
تقول منظمة مراسلون بلا حدود في تقريرها
السنوي الأخير للعام 2013 الخاص بتصنيف حريات الصحافة في العالم إن "اليمن لا
يزال راكدا ضمن المراتب العشر الأواخر من التصنيف، متنقلا من المرتبة الـ 171 إلى المرتبة
الـ 169"[4]وأنه بعد مرور عام على تولي الرئيس عبدربه الحكم في اليمن "لا
يزال الاطار التشريعي كما هو. فالصحافيون يتعرضون دوماً للاعتداءات والمحاكمات، بل
لأحكام بالسجن النافذ"[5]. كل ذلك يضع هذه المحاكمة وغيرها من القضايا عنواناً
لضعف الاطار التشريعي في اليمن في ضمان الحريات العامة وحق التعبير عن الرأي، وكون
حرية الصحافة ما زالت ضعيفة وعرضة للانتهاكات والهجمات التي تنطلق من منصة القضاء أو
من غيرها.
*كاتب وناشط حقوقي يمني
نُشر في العدد التاسع من مجلة المفكرة القانونية
[1] قرار اتهام نيابة الصحافة والمطبوعات
رقم (56) للعام 2013 لكل من صحيفة الاولى والصحفي محمد العبسي.
[2] رد على الدعوى العامة المرفوعة من نيابة
الصحافة والمطبوعات وطلب عدم قبولها لانعدام الجريمة ومخالفتها للقانون، هيئة الدفاع
عن صحيفة الاولى والعبسي، د.حسن مجلي، المحامينجيب الحاج، المحاميطه حسين ابوطالب.
[3] رد على الدعوى العامة المرفوعة من نيابة
الصحافة... الخ، مصدر سابق
[4] مراسلون بلا حدود، التصنيف السنوي لحرية
الصحافة 2013، http://fr.rsf.org/IMG/pdf/classement_2013_ar.pdf
[5] مراسلون بلا حدود... الخ، مصدر سابق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق