انتظرتُ، طيلة سنوات الدراسة، مُعلِّماً يضع جدول الضرب
أو القسمة معياراً يوزّع على أساسهِ طلابَ الفصل، طالباً طالباً، على
كراسيه..هكذا: الأولُ في الحفظ أول في الكُرسي..والثاني في الصف الثاني..والثالث
ثالث.. وهكذا، بعدلٍ ومساواةٍ وتنافس، حتى آخر الفصل.
هذه، إن نظرنا بعمقٍ، هي مأساة البلدان النامية: الطالبُ الأوّل لا يجلسُ، وهو المُستحق، على الكرسي
الأوّل: لا في المدرسة ولا الجامعة. قُلْ ذاتَ الشيء عن الموظّف الأوّل الذي
لا يُعيّن في الكُرسي الأوّل. وعلى هذا
فقِسْ من أصغر كرسي حتى أعلى كُرسي في البلد.
الكرسي
محمد
عبده العبسي
Absi83@maktoob.com
أذكرُ أنني فِي الصف
الأول الابتدائي كنتُ أجلس فِي المقعد الأمامي أمام السبورة مباشرة. ليس لأنني جلست
على الكرسي أولاً كما يفعلُ طلاب المدارس الحكومية مطلع كل عامٍٍ دراسي. ولا لأن والدي
الفاضل، وهو الأميّ، كان موجّهاً فِي وزارة التربية والتعليم فيستخدم نفوذه
ليجلسني فِي كُرسي لم يخضع لشروط التنافس.
ليس هذا ولا ذاك. لقد
كان الفضل في جلوسي على كرسي متقدم يعود للمُعلّمة الفاضلة (هناء محمد المبنّن)
مُعلمتنا فِي الصف الأول الابتدائي بمدرسة خالد بن الوليد قبل حوالي 19 عاماً من
الآن.
قالت فِي أول يومٍ دراسي: إن توزيع الطلاب على
المقاعد سيكونُ بناءً على قوّة حفظهم لجدول الضرب. بحيث أن الأول في حفظ الجدول
يجلس في الكُرسي الأول. والثاني في الحفظ يجلس في الكُرسي الثاني. والثالث يجلس في
الكُرسي الثالث.. وهكذا بعدلٍ ومساواةٍ وتنافس حتى آخر الفصل.
طريقة في منتهى الذكاء
والعدل لحبّ جدول الضرب وحفظه. ولخلق مناخ تنافسي خلاق بين طلاب الفصل للفوز
بالمقعد الأول. وقد كنتُ ممن فازوا به. وانقضى العام الدراسي الأول كأجمل ما بقي
في الذاكرة.
فِي السنة التالية (الصف
الثاني ابتدائي) ذهبتُ إلى المدرسة بنفسيّة مختلفة. نفسية من يحبّ القراءة
والكتابة والواجبات المدرسية. نفسية من يؤمن أن من جد وجد ومن حفظ جدول الضرب جلس
في المقعد الأول.
ولمّا دخلتُ إلى الفصل
لم أركض مثل بقية الطلاب لأحجزَ مقعداً أمام السبورة. كنتُ واثقاً من أنني
سأُجلَسُ في المقدمة لأنني أحفظ جدول الضرب جيداً. لذلك ذهبتُ مطمئناً إلى مؤخرة
الفصل فِي انتظار دخول المُعلّمة هناء: لكنها لم تدخل!
لم تدخل هي. ولم أجلس
أنا. ومر عليّ العام واقفاً.
قلتُ ستأتي في الصفّ
الثالث ابتدائي لتدرّسنا. لكنها لم تأت لا في الصف الثالث ولا الرابع ولا.. ومرت
الأعوام حتى آخر سنة دراسية الصف الثالث ثانوي! وأنا على ما أنا عليه الآن: واقفاً
في آخر الفصل. لا بل جالساً في مقعد أستحق أفضل منه!
لقد انتظرتُ طيلة أثنتا عشرة عام دراسي مُعلّماً
يضعُ جدولَ الضرب أو القسمة أو أي مادة تنافسية بين الطلاب معياراً يوزع على أساسه
طلابَ فصله هكذا: الكُرسي الأول للطالب الأول. والثاني للثاني. والثالث ثالث..
وهكذا.
انتظرتُ الأستاذة هناء
في المدرسة فلم تأت.
انتظرتُ الأستاذة هناء
في الجامعة فلم تأت أيضاً.
انتظرتُ الأستاذة هناء
في كرسي الوظيفة فلم تأت أيضاً.
هذه إذن هي مأساة البلدان النامية:
إن الطالبُ الأول لا يجلسُ، وهو المُستحق، على
الكرسي الأول: لا في المدرسة ولا الجامعة ولا في الوزارة. إن الموظّف الأول لا
يُعيّن في الكُرسي الأول. وأن القائد العسكري الأول لا يُعيّن في الكُرسي الأول.
وعلى هذا فقِسْ حتى أعلى كُرسي في البلد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق