الاثنين، 30 سبتمبر 2013

الآشوري الأخير نصير شمة وعمله الخالد "حدث في العامرية"

لدى نصير شمة قدرة هائلة على عولمة الثقافات والعصور في جُمل موسيقية شفافة عابرة للقارات، مذوبة للهويات، ليست موجهة إلى أذن محلية أو قومية، وإنما لأذن إنسانية.

ليس من اليسير وصف ما تحدثه موسيقاه في خلجات النفس وكيف تدوّم داخلها وتأخذك بعيداً إلى العلالي. هو القريب دون تذلل، والرفيع دون تعال. لطيف حتى لكأنه يخدش الهواء بحركة أصابعه وانحناءه على العود، إنه الاستثناء الجميل في الزمن العربي السرطان!
هناك أكثر من سبب لتفرد وبراعة عازف العود العراقي نصير شمة وشهرته الواسعة التي ملأت الآفاق حداً فاق شهرة معلمه "منير بشير"، أهمها في تقديري مثابرته الجنونية وتنمية موهبته بعيداً عن أية مؤثرات. لقد نبغ باكراً واستطاع إضافة وترين جديدين إلى العود، منجزا العود المثمن عن مخطوطة قديمة للفارابي يعود عمره ألف عام، قدمه أول مرة في حفل في العراق عام 1986 ولما يزل وقتها في الثالثة والعشرين من عمره حتى قبل أن يتخرج من معهد الموسيقى.

تشبع بالتراث العربي الصوفي من دون إغراق، وهضم الحداثة الموسيقية من دون إسراف. واستطاع بذكاءه وصدقه الفطريين المتلازمين تحويل الموسيقى الآلية من فن نخبوي عصي ومحصور، إلى لغة فن سماعي ذات رواج وانتشار مشبعة بلغة الشارع اليومية،بحركة الناس وهمومهم وانفعالاتهم العفوية حتى أن أشياء كثيرة تتمازج في موسيقاه: تغريد العصافير مع قرع حدادي الأسواق القديمة، مع أصوات السيارات، مع الأذان مع سعال المدن، مع قصف الطائرات الامريكية لملجأ أطفال العامرية في العراق. إنه سيد درويش لكن أوركسترالياً أو ربما زرياب في نسخته العصرية.

في 1991 قدم أهم أعماله الفنية وأجلها: "أوركسترا العامرية". 
إنه عمل موسيقي استثنائي لا يشبه مطلقاً أي عمل موسيقي آخر. يحكي قصة ملجأ العامرية الذي قصفته القوات الأمريكية في حرب الخليج الثانية وقد قتلت معظم أطفاله. هنا الاختبار الحقيقي للفن. كيف تحول العام إلى خاص، والسياسي العابر إلى الإنساني الخالد، والإحساس الداخلي لفنان عراقي إلى إنفعال وجداني معبر عن مأساة كونية.

تبدأ الحركة الأولى من الأوركسترا بمعزوفة بعنوان "من آشور إلى أشبيلية يحاكي فيها رحلة آلة العود على يد زرياب، المؤلف العرافي وانتقاله من بغداد إلى أسبانيا أو الأندلس، والأثر الذي أحدثه زرياب بانتقال آلة العود التي خرجت منها عائلة آلات غربية وفي طليعتها آلة الجيتار.

في الحركة الثانية تبدو بغداد العباسية، ببهاءها وإشراقها، حاضرة بقوة طوال المقطع، فيما تنحدر بغداد في الحركتين الأخيرين إلى أن يشعرك توتير الجو الموسيقي، وحزنه، أنه الآن في بغداد البعثية.

ولعل أشد، وأدهش، ما يلفت الانتباه كيف استطاع تحويل رقص الأطفال في ملجأ العامرية، على ما له من إيحاءات ببغداد العباسية في الحركة الثانية، إلى أصوات طائرات أمريكية ثم قصف وتخريب وجمل موسيقية متتابعة تنقل بذكاء، وواقعية، صوت سيارات إسعاف القادمة من بعيد وركض السكان، الهلع، تصادم الناس بعضهم ببعض وأجواء الموت المشاعة مع اقتراب صوت المروحية التي تخرج، ياللعجب، من آلة عود.

محال ترجمة الجمل الموسيقية إلى كلمات.

غير إن بوسعي القول جازماً إن بوسع الموسيقى أن تنقل المشهد: بالصوت والصورة. بالخيال والتخييل، وبذلك الألم السرمدي الذي لا سبيل لنقله عبر كاميرات التصوير.

في الحركة الرابعة يوحي المفتتح الموسيقي، إلى جانب إيحاءاته المتعلقة بالفقد والبكاء، بما يشبه تقطير الحنفية في صحن أو قاع بئر. يليها الإيمان أو الرضا بالقدر معبراً عنه بصوت الأذان. ثم ما تلبث الذكريات المريرة، والواقع المضنك أن يتحولا ميلاداً جديداً ينبعث من الرماد.

كان محقاً وهو يقول في حوار صحفي كيف اكتشف عام 1982 انه "كل ما كتبه المتصوفة وأمضوا للوصول إليه سنوات طويلة أصل إليه خلال سبع دقائق من العزف على العود" بل أقل.

المهم برايه أن تحافظ "على نظافتك الخارجية والداخلية حتى توظف الحالات القصوى التي يصلها المتصوف"،

وأضاف: "أنا عودي صلة وصلي، وهو الشرفة التي أطل من خلالها على العالم وهو الحقيقة، والمترجم الدقيق لعقلي وروحي وتطلعاتي".

اسس #نصير شمة بيت العود العربي في مصر عام 1999 كمدرسة رائدة تضخ كل يوم دماء جديدة في الموسيقى العربية.

إلى جانب معزوفاته الشهيرة لدى نصير شمة كتبة هائلة من المعزوفات التي تتوسل ردم الهوة بين الموسيقى الآلية النخبوية وبين المتلقي العربي، ومن جملتها معزوفاته الفنية عن السودان وغزة ولبنان وفلسطين او غارسيا لوركا وتحت ضوء القمر وغيرها.


تصبحون على خير وعلى وطن آخر

ليست هناك تعليقات:

Disqus for TH3 PROFessional