تطوعت كعضو في لجنة تحكيم مسابقة أعلنت عنها منظمة
أطباء بلا حدود لطلاب جامعة صنعاء للفوز بجائزة أفضل قصة أو مقالة أو رسم
كاريكاتير حول مرض نقص المناعة الإيدز وطريقة تعامل المجتمع اليمني مع المصاب به.
وقد قبلت بعد إلحاح الصديق العزيز الدكتور مروان طاهر كوني لا أرى نفسي في موضع
الحكم على كتابات الآخرين وإجازتهم أولا، ولأني لم أشارك، ثانياً، في أي مسابقة
طوال حياتي. إذ لطالما اعتقدت أنه ينبغي على الأدب والفن أن يكون استهلاكياً حتى
يحرز جائزة أو يفوز بمسابقة.
أمامنا عشرة أيام. جلسنا على طاولة تكتظ بعدد كبير
من المشاركات الطلابية. بعد فرز المشاركات وغربلتها، واستبعاد تلك التي لم تلب
الحد الأدنى من المعايير الأساسية، تولى الصديق الرسام مازن شجاع الدين تقييم
الرسوم الكاريكاتيرية، واشتركت أنا والزميل خالد الحاجبي في تقييم المقالات، وكان
عددها قليلاً نسبياً مثل الرسوم، بينما كان علي منفرداً أن أختار قصة واحدة من بين
23 قصة شارك بها طلاب من مختلف كليات جامعة صنعاء.
شعرت بسعادة لا توصف وأنا أقرأ القصص الواحدة تلو
أخرى. تذكرت أيام البراءة والمثابرة وطموح الشباب (وكأننا قد صرت كهلاً!). وكان
اللافت أن عدداً كبيراً من القصص رائعة وتنتزع الإعجاب وتشفّ عن مواهب صاعدة،
ومواهب ناجزة بحق، وتستحق التوقف عندها بشيء من التفصيل والتأمل.
______________________________________________
مساء الخير أستاذ محمد...معليش بعرف ما بترد ع سؤالي
أبداً لأن في أشياء في حياتك أهم كثير من قصتي اللي شاركت بها وبتشوفها مجرد تجربة
من هاوية...بس أوعدك بإذن الله بيكون لي اسم بين أسماء الكتاب الكبار.... ربك كريم وعندي ثقة إن عندي موهبة وبسوي المستحيل
واصقل موهبتي. تمنياتي لك بالتفوق و من نجاح لنجاح. تحياتي وخالص تقديري لك أستاذي.
____________________________________________
هذه رسالة من إحدى طالبات جامعة صنعاء قالت إن
"قلبها يوجعها" وتود أن تعرف "ما العيب الذي في قصتي". وبقدر
ما آلمني سوء الظن بي منها بقدر ما أبهجتني الثقة العالية لديها. ورغم إني لا أنفك
أذكر نفسي بأنني لست من مانحي الصكوك ولكن ينبغي أن أقول لها: ما دمت بهذا الإصرار
والثقة في مقدراتك الذاتية فسوف تكونين بين "الكتاب الكبار" وإن كنت
واثقة أن عدداً كبيراً من الكتاب الكبار كرهوا ما هم عليه بعد حين.
إلى جانبها تلقيت رسائل أخرى، أقل عتباً لكن أكثر
تبرماً، إحداها من الصديق والزميل العزيز وجاري مراد العريفي. ما يدفعني إلى كتابة
هذا التوضيح الذي لا بد منه، ولا أحب منه، لتبيان الأسباب والمعايير التي اخترت في
ضوءها فوز قصة الطالبة أحلام الفائق بمسابقة منظمة أطباء بلا حدود. تلك القصة التي
تبدو ركيكة وعبثية وتعد الأقصر والأصغر حجماً بين جميع القصص المشاركة.
كان مقرراً أن أعلن أسماء الفائزين وأشرح، بشكل
عام، الآلية التي اعتمدنها في لجنة التحكيم أثناء حفل إعلان الجائزة الذي أقيم
بحضور رئيس جامعة صنعاء الأسبوع الفائت، غير إن ظروفاً شخصية حالت دون ذلك. ولأن
كثيراً من المشاركين في المسابقة أساؤوا الظن في اختياري، وعبروا عن غبن وأسى،
واعتبر بعضهم عدم ردي على كل واحد بالتفصيل غروراً، صار لزاماً علي التوضيح وبشيء
من التفصيل.
_________________________________________
ابتداء، ثمة أخطاء أو قصور نسبي وقع فيه مع الأسف
القائمون على المسابقة ومنظمة أطباء بلا حدود، الذين نشكركم على هذه المبادرة
الرائعة، ويتوجب علينا أيضاً، من باب الحرص، نقدهم حتى لا يتكرر ذلك في الأعوام
القادمة، وأبرزها النقاط التالية:
1- كان من المفترض أن يكون هناك ثلاث جوائز وليس اثنتان فقط، بحيث تمنح
جائزة لأفضل رسم، وجائزة لأفضل قصة، وثالثة لأفضل مقال. فكل واحدة لها مسلكها
الخاص والمختلف عن الآخر، وكان مجحفاً عدم ترشيح أي مقال رغم أن أربعة مقالات على
الأقل، من المقالات المشاركة، كانت رائعة ومتماسكة وتنم عن موهبة واحتراف.
2- وضعت المنظمة شرط "الإيجابية" كمعيار لترشيح أي قصة أو
مقالة أو رسم للفوز بالمسابقة. وهو شرط مُقيّد لنا كلجنة تحكيم، وصعب، وفضفاض،
فضلاً عن أن الإيجابية أو المثالية الأخلاقية، كأفكار مجردة، تفسد الفن وتضعفه إلى
حد كبير وتحوله إلى خطاب دعائي أو موعظة إنشائية لا أكثر.
3- من الأخطاء التي تغتفر أن إعلان المسابقة لم يتضمن تحديد معايير
ثابتة يتساوى فيها جميع المشاركين في المسابقة، كالالتزام بعدد معين من الكلمات
900 إلى 1200 كلمة مثلاً. لهذا السبب كان كثير من القصص كبيرة الحجم وطويلة، وتكتظ
بتفاصيل تتوه القارئ، وتفقد القصة تماسكها الموضوعي، والملام في هذا الاخوة في
المنظمة وليس المشاركون الذين أشعر بالتعاطف والحزن لأن بعضهم بذل جهداً كبيراً في
سرد التفاصيل والاشتغال على اليومي.
__________________________________________________
أود لو بمقدوري الحديث والتوقف إزاء كل قصة على حدة
لكن ذلك متعذر وأرجو الصفح من أولئك الذين لم أذكر أسماءهم أو أشر إلى قصصهم رغماً
عني. بالمجمل القصص متنوعة ولكل مزاجه وجوّه.
منها القائمة على المونولوج كقصتي جواهر صالح أو قصة
خولة محسن.
منها القصة الطويلة نسبياً والمليئة بتفاصيل واشتغالات
جزئية كقصتي أروى عبدالكريم وطارق هادي.
ومنها المكتوبة بلغة أنيقة ومشحونة بعاطفة ودفق
شعوري جذاب كقصتي أسيل فؤاد سعيد وأمل حميد الدين.
وتقوم قصة شيماء عبد الكريم الآنسي على فكرة ذكية وشديدة
العمق والتركيز. إلى جانب أنها مقتصدة تعبيرياً بخلاف كثير من المشاركات التي
تتجاذبها أفكار عدة وتكتظ بمعلومات وتفاصيل لا تضيف أية قيمة فنية بقدر ما تضعف
بنية القصة وتماسكها. أعجبتني قصة شيماء كثيرا.
بساطتها وواقعيتها. أيضا قصة أمل صالح قصيلة جيدة من الزاوية نفسها إذ لم تتشتت وتحشر
تفاصيل ومعلومات وكراكيب كلام، وتحكمت بالسرد وتدفقه إلى حد ما وجعلته يدور حول فكرتها
المركزية، مثل شيماء بالضبط إنما ببراعة وقدرة أقل فنياً منها.
ومن القصص المدهشة بواقعيتها قصة مرام عبد الواحد. ومن
القصص التي تفصح بوضوح عن كاتب وقاص بحق؛ قصة الصديق العزير مراد العريفي. هو
متمكن بكل معنى الكلمة.
وينبغي التوقف قليلاً عند قصة محمد فخر الدين حجي؛ فقد
كان بارعاً في ترتيب أفكاره وجمله، ومتواضعاً وصادقاً لحظة الكتابة. سرد سلس وواقعي
ولغة مشعة ونظرة دلاليا. عدا ذلك تمتاز قصة حجي عن جميع المشاركين بثلاثة أمور:
الأول: أنه نقل
صورة مقربة عن البيئة اليمنية وخصوصياتها المحيطة بالشخصية التي يقوم عليها النص
والضغط المجتمعي الذي يجد المريض نفسه عالقاً فيه.
الثاني: العفوية والتدرج
في الأحداث. حيث يكتشف ربيع أنه مصاب بمرض الإيدز بشكل مفاجئ، عندما أراد التبرع بالدم
على خلفية تأثره بندوة طبية عن التبرع بالدم أقيمت في الجامعة فتحمس وأراد فعل
الخير فاكتشف عندئذ إصابته بالإيدز.
الثالث: الواقعية وخاتمة
القصة التي تنتهي بانتحار ربيع. شخصياً كنت أميل إلى ترشيح القصة بالفوز بالمسابقة
لولا شرط الإيجابية. وفي تقديري هي القصة الأفضل وإن لم تحرز المركز الأول.
بنفس الخاتمة المحزنة انتهت أيضا قصة عبير مصطفى الحمادي.
قصتها مؤلمة جدا وإن كانت بسلاسة وواقعية أقل من قصة حجي. تروي معاناة فتاة ريفية عاثرة
الحظ اضطر والدها إلى تزويجها لرجل ثري يدين له بأموال، وفي نهاية المطاف انتحرت بعد
شيوع نبأ مرضها لدى أهل قريتها وسوء معاملة أهلها وعزلها عنهم في سجن منزلي وكأنها
ستنقل لهم العدوى عن طريق الهواء أو لمجرد الكلام.
وبالعكس، فإن قصة عبدالرزاق الضبيبي تقدم حالة إيجابية
مشعة بالأمل لمريض يشفى من مرض الإيدز بعد إخلاصه وتضرعه الصادق إلى الله بشفائه. ورغم
أن هذه القصة تلاءم الشرط الأساسي للمسابقة المتمثل بالإيجابية لكنها استبعدت لأسباب
فنية.
____________________________________
قصة أحلام الفائق هي الأقصر حيث لم تتعد 17 سطراً.
قصة مضغوطة ومكثفة وإن كتبت بلغة جافة وبسيطة وأقل إبهاراً من قصص أخرى. وقد
رشحتها للفوز بالمسابقة بعد عدة قراءات، ومفاضلة تفصيلية بينها وثلاث قصص أخرى،
لعدة أسباب في طليعتها ذكاء أحلام. وتبيان ذلك في فكرة شهيرة لأحد أبرز رواد
الكتابة الحديثة فحواها أن على الكاتب أن يفكر ملياً في الشيء الذي لا ينبغي أن
يكتبه وليس، بالعكس، الشيء الذي يريد كتابته. جميعنا يشغل ذهنه سؤال ما الذي
سأكتبه وليس ما الذي ينبغي ألا أكتبه.
جميع المشاركات أو معظمها، على الأقل، مارست رقابة
ذاتية عند الكتابة. فغالبية الأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة الإيدز أشخاص
طيبون، مثاليون، وضحايا خطأ طبي في الغالب، ما ينطوي على حكم مسبق وإدانة ضمنية
للمصاب بالإيدز عن طريق اتصال جنسي (وهو أمر موجود وشائع في المجتمع اليمني أصلا)
وكأنما يكون المجتمع اليمني مخطئاً ومذنباً فقط حين يتعلق الأمر بأولئك المصابين
بالمرض عن طريق خطأ طبي، أو نقل دم، وليس ظالماً إن كان مريضاً بسبب الاتصال
الجنسي. وحدها قصة أحلام لم تقع في هذا الشرك المثالي.
ثانياً: بسبب شرط الإيجابية الذي وضعته المسابقة
حاول عدد المشاركين تصنع واختلاق سعادة ورضا عن مصير أبطال قصصهم، لكنها كانت
سعادة مفتعلة، كجسم غريب دخل إلى الجسم، بخلاف القصص القليلة التي انتهت بنهايات
متسقة مع السرد كقصتي عبير وحجي. غير إن الانتحار ليس الرسالة التي تريد منظمة
أطباء بلا حدود إيصالها وإن كان ذلك أكثر واقعية واتساقاً مع النص. وبنظرة كلية على جميع المشاركات فإنها إما
تنتهي بنهاية مأسوية متمثلة في موت المريض وندم أهله وأصدقائه، وإما بانتحار
المريض، وإما بتعافيه واستجابة دعائه وصلواته من الله. وحدها أحلام غردت خارج
السرب. ذلك أنها لم تحاول مطلقاً أن تقدم رسالة إيجابية. إنها تتهكم من الوعي
المجتمعي تجاه المرض وتسخر من شخص كان جالساً إلى جانب بطل قصتها في المركز الطبي،
وقد خار مغشياً عليه لدى معرفته أن الجالس إلى جانبه مصاب بمرض نقص المناعة. مات
هو بينما خرج البطل، الذي تسلم لتوه فحصاً طبياً يؤكد إصابته بالمرض، مبتسماً
راضياً وعازماً على العيش طبيعياً كالبقية من حولي. وأنصح الشباب المشاركين بقراءة
كتاب الروائي ميلان كونديرا (خيانة الوصاية) وتحديداً الفصل الأول الذي كرسه
للحديث عن فن التهكم والسخرية في الرواية العالمية.
من حاولوا تقديم صورة إيجابية، صادقة أو مفتعلة،
كانوا في موقع الدفاع. في موقع حارس المرمى. بينما كانت أحلام بفعل التهكم في موقع
من يقود هجوماً مرتداً على المجتمع. لست أنا المريض بل هو.
هكذا تصل الرسالة بوضوح دون اضطراب.
إلى جانب كل ذلك، تميزت قصة أحلام بالتعمية
الفاتنة.
لا تفاصيل زائدة، لا معلومات تصلح في سجل الأحوال
المدنية أكثر منها في قصة.
لا مثاليات، لا نفسية من يشكي ويبكي، ولا محاولة أو
جملة واحدة لاستعطاف القارئ واستدرار رحمته وشفقته بمريض الإيدز المسكين والضحية.
هكذا تبدأ: مريض يذهب إلى المركز الطبي لاستلام نتيجة الفحص وهو يعلم مسبقاً
بإصابته بالإيدز. يصادف شخصاً مضطرباً وقلقاً ينتظر في الرواق (هل هو زائر أم مريض
أم مرافق لمريض؟) لم توضح ذلك بشكل قاطع وهنا الذكاء. يعطس فجأة فيكون ذلك سبباً
لتبادل الحديث بينهما. الأول عفوي والآخر حذر ومتوجس ومصاب بالوسواس القهري ويخاف
لمجرد سماعه أي مرض. تخرج الممرضة فجأة. تمد نتائج الفحص للمريض الأول وتؤكد له
أنه ما زال مصاباً بفيروس الإيدز. يصعق الآخر. و"يخرُ صريعاً، فإذا بهِ ميتٌ بعد
أن سمعَ أن من كانَ يكلمهُ– أنا – مصابٌ بالإيدز. جاءتهُ سكتةٌ قلبيةٌ! تعلّق
أحلام على مآل الرجل بذكاء وإيجاز: "عندها أدركتُ أن هُناك أمراضاً كالزكام و
الوسوسة والجهل تقتل الإنسان في حينه". ولا عجب في أن يكون عنوان القصة:
" سأعيش
الآن سعيداً".
ما اسم المريض؟
ما اسم الشخص الآخر؟
هل كان مريضاً أم زائراً أم مرافقاً لمريض؟
والبطل، المصاب بالإيدز هل أصيب به بغلطة طبية؟
أم بسبب الاتصال الجنسي الحرام؟ ما احتمالية شفائه
أو نسبة مرضه؟
كل هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة المتناسلة في ذهن
القارئ لم تجب عنها أحلام وتعمدت بذكاء، أو حتى عن غير قصد وأستبعد ذلك، ألا تجيب
عنها وأن تتركها معلقة ومفتوحة على كل الاحتمالات. وهذا سبب إضافي لترشيح هذه
القصة. وما أعنيه بالتعميه هو ذلك الغموض الذي يزيد النص تفتحاً وإشراقاً. ولعل
أشهر قصة كتبت في القرن العشرين قصة آرنست هيمنجواي "قمم بيضاء مثل
الدببة". قصة مكثفة على 3 ورق A4 تحكي قصة رجل وامرأة في محطة قطارات في مدريد.
لا يخبرنا هيمنجواي باسمهما ولا طبيعة علاقتهما (زوجان/ عاشقان/ شقيقان) ولا بسبب
الجدال الذي بينهما، ولا بسبب خوفها ورغبتها في الصمت وتأمل ققم الجبال، بينما هو
يثرثر ويحاول تطمينها. هل هي حامل؟ هل تخشى من الابن؟ هل؟ هل؟ هل؟ عشرات الأسئلة
اللانهائية التي تنتهي في المشهد ذاته.
تحتاج أحلام وكثير من زملاءها إلى إنضاج تجاربهم،
وصقل مواهبهم، وتربيتها، وتغذيتها بالقراءة المتأنية والعميقة والمنفتحة على كل
الفنون.
هناك مشاركون يكتبون بلغة أجمل وأكثر نضارة
وإشعاعاً من لغة أحلام، وربما هم أكثر موهبة وأكثر إصرارا على صقل موهبتهم ولديهم
قابلية أعلى على التعلم والتطور.غير إن ما ينبغي أن يضعه جميع المشاركين في
المسابقة أن الأدب الحقيقي ليس ذاك المتوج بجوائز المسابقات، وأن النص، أي نص
أدبي، إنما هو مجموع عناصر ومركبات عدة. توليفة معقدة لكن متجانسة من المبنى
والمحتوى.
لطالما اعتقدت أن الكتابة أقرب إلى عملية ضبط
مقادير. إن زاد عنصر على آخر أفسد المجموع. مثل كوب الشاي. إن زادت، أو قلت، كمية
السكّر أو الشاي فقد مذاقه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق