حُمل عبد
اللطيف الربيع، مريضاً، إلى مُستشفى هو الآخر مريض في بلدٍ داخل غرفة العناية المركزة.
كان الأولُ "الربيع" بحاجة،
ليبقى حيّاً، إلِى أنبوب أوكسجين. وكان الثاني "مستشفى الثورة بصنعاء"
بحاجة إلِى تعبئة 100 أنبوب فارغةٍ من الأوكسجين. وكان الثالث "البلد" في
انتظار نتيجة انتخاباتٍ ستدفعهُ، شمالا ً وجنوباً، إلى حرب صيف 94م!
لقد فارقَ
الحياة، بسبب نفاد الأوكسجين الصناعي، الشاعر الذي كتب في مقتبل شبابه:
"أتنفسُ من رئة الله"!
عبد اللطيف الربيع.. المقاعد الأمامية
محجوزة أو فارغة!
قبل أوّل انتخابات برلمانيةٍ في اليمن، بأيامٍ، انتُخبَ عبد اللطيف
الربيع، الشاعر والتشكيلي، إلى المقبرة. لمْ يكن الربيع مُرشحاً، وهو السياسي،
لمقعدٍ نيابي. لكنه كان مُرشحاً، قبل بلوغ الخمسين، إلى المقبرة. على الأقل هذا ما
تقوله قصائدهُ التي خرجتْ، حسب تعبيره، من "فُسْحةٍ بين الكفن والجسد".
الموتُ لدى عبد اللطيف الربيع حياة أخرى أكثر هناءً واستقراراً. كأنه
نزل عن طريق الخطأ على كوكب الأرض، حتى أن نصوصه توحي لقارئها أن كاتبها حفّارُ
قبورٍ يرتدي قبعة سوداء ومعطفاً داكن. لا تشعرك نصوص الربيع مطلقاً أنه عمل،
لسنوات، مديراً لأكبر مصْرف حكومي وفي مناصب أخرى رفيعة!
كأنه، وهو الفنان، نحّاتُ شواهد غير مرئية وليس نحّات جداريّة
"الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية" المُنتصبة في قلب الجامعة الجديدة
بصنعاء. المكان الذي تشكلت فيه نواة الثورة الشبابية وصار مكاناً للاعتصام السلمي. إنه اليوم يعرف باسم "ساحة التغيير".
مات باكراً وليس هذا بمستغرب.
فقد تعايش الربيع، في حياته القصيرة، مع الموت ذهنياً ونفسياً بل ربما أحب صحبته.
وما مجموعتيه الشعريتين: "فازعة" 1986 و"الكفن والجسد" (م ط1
بيروت91/ ط2 صنعاء عن وزارة الثقافة 2004م) إلا المدّة بين الربيع.. وخريفه.
كان سابقاً لزمنه بشكل ملفت، وجريئاً
ليكتب قصيدة نثر متقدمة في زمن كان معظم شعراء جيله يراوحون بين كلاسيكية شوقي وبين
تفعيلة نازك الملائكة ى السياب. إنه شاعر التفاصيل اليومية بامتياز. صائد المهمل
والهامشي. كان الآباءُ في اليمن يُدوّنون، قبل نصف قرنٍ، تواريخ ميلاد أبنائهم،
باليومِ والسّاعة، في دفّتيّ المصحف الكريم (من الداخل). فالمصحفُ وإن تقادم الزمن
محفوظ. أما الأوراق، وإن حفظتْ، فضائعة. إنها
عادة يمنية -أو ربما عربية- خالصة:
"انتهى عُمري يومَ أرّخ لي
/
والدي في مصاحفهِ /
فسلامٌ عليّ /
سلامٌ عليّ" صـ22
نالَ
ميّتاً.. ما أرادهُ حيّاً!
العادةُ، في المثل المحكي
الشهير، تقتلُ الشعور. لكنّ العادة، في شعر عبد اللطيف الربيع، شعورٌ باطني عميق وصادق
تجاه العالم. إليكم عيّنة حية:
تنظرُ البيئة اليمنية،
والإسلامية عموماً، إلى الاغتسال يوم الجمعة على أنّه سنةٌ دينية وليسَ فعل
اغتسالٍ مجرّد. وتنظرُ، وهي المحافظة، إلى زيارة القبور، عقبَ صلاة الجمعة، على
أنها صلة أرحام بين حيّ وميت. وكلاهُما، على ما فيهما منْ إيجابٍ، عادة.
ولأنّ الواقعي (هلْ قلتُ اليومي؟)
مادةُ الشعريّ، خاصةً عند شاعر مرهف يلتقط التفاصيل بحساسية عالية ويشتغل عليها،
فقدْ عبد اللطيف الربيع حول العادة إلى إحساس عميق وصادق. كتب الربيع، في
"حروف الجن"، كمن يعقد بمحض إرادته صفقة مع الغيب: "يوم
الجمعة أغتسلُ منْ نفسي/ وأتعطرُ برائحةِ المقبرة/ بمنْ أقيمُ صلاة الفرح/ أنا
خشبُ الخطيئة " صـ93 كتب ذلك بصدق فصدقه، ياللمفارقة،
قَدَره بالمثل!
لقد تحقق لعبد اللطيف الربيع،
ميتاً، ما ذهبَ إليه، حيّاً: ففي يوم الجمعة تحديداً 22/ابريل /1993م اغتسل الربيع
"من نفسه" لكنْ إلى الأبد وتعطّر، شأن جميع الموتى، "برائحة المقبرة"!
هلْ هي مصادفة؟
نعم هي مصادفة بالنسبة لي ولك.
وليس لشاعر قال، وهو الرّائي، قولَ منْ يُوقن أنه قد انتقل إلى هناك. روحياً على
الأقلّ:
"السماءُ
ليست الديدان
والأرضُ ليست الغربان
هذا ما اكتشفته بعدَ موتي (!!!!)
المقاعدُ الخلفية مليئة بالهتاف
والأمامية محجوزة
وفارغة " صـ105
ثم إنّ "ابن أدم ثلثُا ما
نطق" كما ورد في الأثر. أو كما قال زهير بن أبي سلمى: "لسانُ الفتى نصفٌ
ونصفٌ فؤاده". لا حاجة، في هذا المقام، للاستشهاد بالروائي الفرنسي ألبير
كامو الذي كتبَ في العشرينات من عمره: "إن أبشع أنواع الموتِ الموتُ بحادث
سيارة". وقد مات، بعد سنتين فقط من فوزه بآداب نوبل، بحادث سير عجيب!! والنماذج المشابهة لا تعدّ ولا تحصى.
قرب
خُزيمة يتّسع الجسد!
يستأثرُ الموتُ، دائما، في شعر
عبد اللطيف الربيع بالبطولة أو الانتباه. حتى وهو يتهكّم، سياسياً، من مذيعةٍ
تقرأ، في نشرة الأخبار، مبتسمةً تعزية:"لفقيدٍ قضى عمره/ في
الجنازة/ في خدمة الميتين" صـ46. وفي قصيدة لعبد الله حمران (أحد
قادة ثورة سبتمبر المقصيين) قال بالموت ومشتقاته مُعزيّا: "انك
لم تمتْ / أنت الآن تلبسُ/ طاقية الوطن المتخفّي في النعش "صـ195
ويأتي الموت، في سياقات أخرى،
قتلاً كـ: "لعبنا لعبة السيف والرقبة" صـ18. أو
"وشاهدتُ رأسَ أبي/ كرةً يتقاذفها صبية الحيّ " صـ34:
ذاك أن والد عبد اللطيف الربيع القاضي محمد الربيع كان أحد قادة 1948م التي أسقطها
بعد أسابيع ولي العهد الإمام أحمد يحي حميد الدين.
كما يأتي الموت خلاصاً بالتأكيد
كما في أحد أشهر وأجمل نصوصه "ملاحظات عني":
"قرب خُزيمة
يتّسع الجسد/
وتكثرُ الحركة/
وهناك دائما شرطي مرور/
ينظّم السيرَ نحو المقبرة"
صـ104.
وخُزيمة، إيضاحاً، مقبرة شاسعة
في قلب العاصمة صنعاء. تكثرُ، بالفعل، "قربها الحركة" وحتى يومنا هذا "هناك
دائماً شرطي مرور" كما كتب.
وإذن: فانتخابُ عبد اللطيف
الربيع إلى المقبرة كان من ترشيح قصائده التي كانت بمثابة قبرٍ صناعي قبل انتقاله
إلى قبره الـ..طبيعي: "الموتى كثيراً ما يثرثرون أثناء
موتهم/ ليت لي نفس الشجاعة " صـ103
"لماذا عشتُ ومات صديقي
الموت"صـ177. و"أذكر أني حضرتُ مراسم دفني (!!!) وقبّلتُ أرملة"
صـ183.
وقال (معزّياً) في قصيدة فازعة
(اسم جدته): "ولبستُ البلاد حداداً عليك/ لي الآن مقبرتان أرى بهما/
ولي الآن عمران/ عمرٌ أموت به كل يومٍ/ وعمرٌ أخاف عليه من العيش " صـ9
لقد كان الربيع، وهذه ربما مأساته،
حالماً شفافاً: "حين ينامُ العالم/ وحين أسمع
شخير الايديولوجا/ أشعلُ شمعة الشمس/ وأطلي الأرضَ باللون الأبيض/ وأكتب قصيدة
الفقراء/ بأبجديةٍ طازجة" صـ138
نام هو .. فيما لا يزالُ العالم
يشخّر غير مكترث!!
يومَ انعدم الأوكسجين !
حُملَ عبد اللطيف الربّيع، مريضا،
إلى مُستشفىً، هو الآخر، مريض. في بلدٍ، آنذاك على الأقلّ، في غرفة العناية
المركزة: كان الأولُ (الربيع) بحاجة، ليبقى حيّاً، إلى أنبوب أوكسجين. وكانَ
الثاني (مُستشفى الثورة) بحاجةٍ إلى تعبئة 100 أنبُوب، فارغةٍ، من الأوكسجين. وكان
الثالث (البلد) في انتظار نتيجة انتخاباتٍ ستدفعهُ، شمالا ً وجنوباً، إلى حرب صيف 94م!
كميةُ ثاني أكسيد الكربون، في
صنعاء، تفوقُ كمية الأكسجين أكثر مما تحتمل الرئتان (لارتفاعها 3000 عن مستوى سطح
البحر). عدن عكس صنعاء: طبعاً وطبيعةً. وفق ذلك، وبناءً عليه، فإنّ اتحاد صنعاء
وعدن، من ناحيةٍ كيميائية بحتة، اتحادٌ بين الأوكسجين O2 وبين CO1 ينتج عنه، بالمطلق، ثاني كسيد الكربون: هذه النتيجة الكيميائية تكررت أيضاً
في المعادلة السياسية وكان لفعل الوحدة بين صنعاء وعدن نفس النتيجة الكربونية. أو
هذا ما اعتقده شاعراً وكاتباً صحفياً.
عن 47 ربيعاً، توفي عبد اللطيف الربيعُ.
لقد فارق الحياة، بسبب عُلبة أوكسجين، منْ قال، عن نفسه، ذات قصيدة: " أتنفسُ
مِن رئة الله". فيالها من مفارقة حامضة!
مُنتخب:
كتبَ الربيع التفعيلة والنثر.
وليس في مجموعتيه "فازعة" و" الكفن والجسد" إلا قصيدة عمودية
واحدة هي "مَدَدْ" التي تأثر، بها ومنها، شعراءُ عديدون في اليمن. ومنهم
الدكتور عبد العزيز المقالح. وقدْ آثرتُ أنْ تكون هي بالذات منتخباً:
مَــــــــــدَدْ
نعمْ
للزّبدْ..
نعمْ للعناصر
في كيمياء الأبدْ..
مَدَدْ.. مَدَدْ
مَدَدْ
سيّدي البحر ..
مَدَدْ سيّدي الصفر..
قدني إلى حيثُ لا ينتهي
بي العَدَدْ ..
مَدَدْ..
مَدَدْ..
مَدَدْ سيّدي العقل ..
أعطيكَ لغواً..
وأحْجبُ مملكةً منْ جَسَدْ
مَدَدْ.. مَدَدْ ..
مَدَدْ..
سيّدي الوهم
إني أنا مفردٌ يتجمّع
منْ لا أَحَدْ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق