السبت، 2 يونيو 2012

قصّة زجاجة.. صديقي الذي مات قبل 11 عاماً

عن صديقي الذي مات قبل 11 عاماً
قصّة زجاجة

محمد عبده العبسي
كنتُ، في الصفّ الأول الابتدائي، أمشي على الجدار، حالي حالَ نفسي. وليس لي أصدقاء إلا السبورة وصديقين واحد اسمه، على ما أذكر، رياض. والآخر عبد النور: عبد النور الشريف إنْ أردتم اللقب.
كنّا، على مقعدٍ واحدٍ، جارين، كتفاً بكتفٍ وفخذاً بفخذٍ وبخانة كُتبٍ واحدة. كانَ أحدُ أزرار قميصه، على ما أذكرُ، مُثبّتاً بـ"مرتق" (دبوس). وكانتْ خيوطُ حذائي الرياضي "البُوتِي" بلونين: خيطٌ أسود، في الرجل اليُمنى، وأبيض في اليُسرى.
كنّا جارين: كالسعودية واليمن، قبل حرب الخليج. أو قبل انهيار سدّ مأرب واكتشاف النفط!
تعارفنا إلى بعضِ، أوّل مرةٍ، على الرصيف وليس على المقعد الدراسي. تحديداً: عند رصيف بقالة أبو ياسر المجاورة لمدرسة خالد بن الوليد.
كيف؟
في تلك العصرية كنتُ، ككثيرٍ من الأطفال، أسيرُ في الشوارع حافي القدمين. ثم شعرتُ فجأةً بعضّةِ زجاجةٍ، كالناب، قاع القدم!
لطالما لعبتُ، في الحارة، كرة القدم حافياً دون أن أصابَ بأذى. لكنْ حين أكونُ بعيداً، نسبياً، عن المنْزل تكونُ الأشياءُ الحادة أقرب ما تكون إلى رجليّ (حصلَ ليْ ذلك ثلاث
مرات). وقد كنتُ، تلك العصرية، بعيداً عن الحارة. ودون السابعة من العمر.
أجبرتني الدماءُ الغزيرة على الجلوس فوق رصيف بقالة أبو ياسر في شارع العدل. حاولتُ بقرطاسٍ إخفاض، لا أقولُ إيقاف، سُرعة الدم المتدفّق دون جدوى:
أرأيتم الزيتَ الحار إذْ يُقذفُ، في رمضان، بالسمبوسة والشبس: كنتُ كذلك!
ثم لمّا ضجِرتُ ضغطتُ، بقوةٍ، على الجرح بأصابعي. لكني قبل أن أرفع يدي كنتُ قد بكيت!
والبكاءُ حلّ:
أشهدُ أنّ البكاء حلّ:
لو شاهد الشخصُ الذي كسر القارورة حالتي، يومئذ، لما رماها ولربما يشتري مكنسةً ويقضي حياته في "إماطة الأذى" عن الطرقات! لو شاهد القاتل أطفال من قتل لما فعل. ولربما أنتج، إنْ كان ذا مشاعر، مُسلسلاً كرتونياً لأطفال العالم كـtom & jeery.
هل كانَ سيخترعُ نوبل البارودَ لو حَدِس أنّ الرصاصة، على صُغرها، ستؤدّي، طوعاً أو كرهاً، إلى المدفع. ومن المدفع إلى الصاروخ إلى القنبلة:
من غريمُ ضحايا هيروشيما؟
القنبلة أم الطيّار أم الحلفاء أم "عناد" ملك اليابان؟
بل منْ غريمي أنا؟ الزجاجة أم الشخص الذي كسر القارورة أم أنا الذي لم أرتد الحذاء أم والدي الذي لم ينهرني لما لم أرتد الحذاء؟
من؟
عاملُ النظافة؟ هه
مرّ جواري، يومها، أشخاص كُثر لكنهم، مثلي ومثلك اليوم، مرّوا دون رفّة رمش!
كانَ عبد النور (الذي لهُ منْ اسمه نصيب) مارّاً بالصدفة كأولئك. لكنه فزع لِمَا رأى وأصرّ على اصطحابي إلى منْزلهم المُحاذي لمبنى البحث الجنائي: ليتَهُ ما فعل. بلْ ليتني منْ فعل. أو ليتنا تقاسمنا الزجاجةَ نصفين: عضّةً بعضّةٍ إلى أن تتداخلَ الأسنانُ باللثة!
كانَ المرحُوم والدهُ (وهو ممثّل تلفزيوني أدّى دورَ مرافق بركتنا في المسلسل الشعبي الشهير) حينها مُخزّناً. لكنْ وبذات اللطفِ الذي عاملني به الابنُ كان الأب: فقام بتطهير الجرح ثم ضمّده وأخذ يكلّمني عن ضرورة ارتداء الحذاء، وأننا، أنا ومنْ كسر القارورة، شركاء في الذنب، ومر الوقت.. ثم أكلنا نعم أكلنا أنا وعبد النور.. وبحلول المغرب كانت ذراعه حول خاصرتي وذراعي مُدلاة من على رقبته في الطريق، من بيتهم المِلْك (لأني سألته!) إلى بيتنا الإيجار:
ذاكرتي قوية إلى هنا لكن ماذا جرى بعد ذلك؟ أقسمُ (بالذي لا تأخذهُ سِنةٌ ولا نوم) لا أذكر. لا أذكر. ربما لأنّ الأمور كانتْ على ما يرام!
هكذا بقينا أصدقاء، بشكلٍ عادي، حتى الصف الرابع. ثم افترقنا مع أننا كنا لانزال في ذات المدرسة: نصطبحُ من ذات البوفية. ونتزاحم في ذات الممر. ونفتحُ أيدينا لذات العصي!
وتدور الأيام، فيصابُ، هذه المرّة، هو بالزجاجة. لكنْ لم يسعفهُ أحد: كان هو في شارع العدل ينْزف وأنا في شارع القصر، في محل ملابس، أبيعُ وأشتري وأعدُّ الأربال (على اعتبار أن النقود اليمنية أربال)!
استريحوا فلنْ يسعفهُ أحد:
مات عبد النور قبل 11سنة (1997). وقبل أسابيع، فقط، رنّ المنبه في رأسي!
مات عنْ عُمرٍ ناهز الثالثة عشرة قضاها في فصول مدرسة خالد بن الوليد ثم في أسرّة مستشفيات كثيرة. وبين هاتين قضاها في خدمة ولدٍ ينزفُ على الرصيف: ولدٍ قليل وفاء هو أنا!
هو أنا!
ترى لمنْ حوّلتَ الرصيد المُتبقي من عُمرك يا عبد النور؟
لمنْ يا كريم؟
ثم إني ما عزّيتُ أهله (ولا نفسي) بموته لأني عرفتُ نبأ وفاته، بعد شهورٍ، من أخيه عُمر الشريف، وقبلها من رياض العمراني. حينها، بحثاً عن مبرّرات، كُنا قد نقلنا من حارة حي الكويت. ثم إنني (حدّثتُ نفسي) كنتُ أدرس صباحاً وأعمل مساء: يعني مشغول!
تباً لي!
لا يؤلمني أنني لم أبك عليه. لأنني، دائماً، أبكي بالتقسيط. وأختي، أما وقد فقدتُها، خيرُ مثال.
لا يؤلمني، أيضاً، أنني لم أحضر جنازته. إذ لم أحضرْ جنازة أمي التي لم أفارقها، طيلة شهرَي مرضها، إلا يومَ وفاتها الذي كنتُ فيه رفقة الزميل عابد المهذري. أهنالك من هو منها أعزّ؟
ما يؤلمني بحق أنني لم أشكرهُ، بعدها، بفعلٍ ما وليس بلفظ.
هذا بس؟
منذ أسبوعين دخلتْ، في مطبخ البيت، زجاجة صغيرة إلى رِجلي. زجاجة صغيرة للغاية لدرجة أنها لم ترق قطرة دم، لكنها كسرت القفل:
كسرت القفل المكسور:
فبكيتُ!
بكيتُ كما لم أبكِ من شيء أو على شيء. كانت دموعاً من مياهي الجوفية وليس من عيني. بكيتُ حتى سمعتُ، في داخلي، قرْحةَ صوتٍ ما:
أسمعتم صوتَ خزّان الماء، لمّا يفرُغُ، كيف يقرح: كنتُ كذلك!
الآن، أما وقد جُرحتُ بزجاجاتٍ كثيرة وسالتْ من قدميّ دماءٌ كثيرة، فهمتُ لماذا أظل أنزفُ، وحدي، دُونَ أن يمدّ إليّ أحدٌ لفةَ شاش. أو يقول، صديق أو غريب، ما لكَ؟

عبد النور.. رقم 2
الأحد الماضي (13/4) سعدتُ أيّما سعادة عندما تعرّفتُ على عبد النور رقم 2.
إنه والله لقرّة عينٍ لأمه، وإنّ في هذا الطفل لتعويضاً، وزيادة، عن عبد النور الأول.. صديقي.
قبل أن أغادر باب البيت سألتُ أم عبد النور الفاضلة عن رقم ابنها الكبير عُمر الشريف (لطالما حسدناه على اسمه) المُقيم في ضلاع! وبعد إذ أخذتُه سألتني "لو تشتي رقم عمّار" (ابنها الثالث) الذي لم أعرفه. على أنني قبل أن أجيب عليها كان عبد النور الصغير، ذو الـ6 سنوات، يقول:
وأنا ما تشتيش رقمي؟

ليست هناك تعليقات:

Disqus for TH3 PROFessional