تصوير: ثناء فاروق-اليمن
تصوير: ثناء فاروق-اليمن
اعتاد اليمنيون، حتى وقت قريب، على وضع ثلاجات أو حاويات بلاستيكية بالماء البارد أمام منازلهم ومحلاتهم يشرب منها المارة في الشوارع وعابرو السبيل كسلوك اجتماعي تحث عليه الشريعة الإسلامية، بوصفه نوعاً من الصدقة والزكاة على المال. مع بدء العمليات العسكرية لـ "عاصفة الحزم"، شاع في المجتمع اليمني نوع جديد من الصدقة الجارية أو ما يعرف محليا بـ "السبيل". إنه التصدق بالكهرباء.
يعيش اليمنيون في ظروف إنسانية شبه مستحيلة في ظل انعدام كل أساسيات الحياة من الوقود والمياه والسلع والمواد التموينية أو ارتفاع أسعارها بشكل جنوني.
وإلى جانب موجات النزوح الجماعي عن المدن، وإلى جانب الغارات اليومية لطيران التحالف وما تتسبب به من ذعر ودمار، فإن أكثر ما يعاني منه اليمنيون هو انقطاع التيار الكهربائي بشكل متصل عن المدن منذ أكثر من 70 يوماً، كحدث لم يسبق له مثيل منذ دخول خدمة الكهرباء إلى اليمن أواسط القرن الماضي.


نتيجة ذلك، وكنوع من التكافل الاجتماعي، بات شائعاً في تعز وعدن وصنعاء مشاهدة لافتات ورقية على أبواب العديد من المحلات التجارية التي تملك مولدات كهربائية - أو ألواح توليد الكهرباء عبر الطاقة الشمسية - مكتوب عليها عبارة "كهرباء سبيل". يمد مالك المحل توصيلة كهربائية إلى الشارع يتيح من خلالها للمارة أو لجيرانه في الحي شحن هواتفهم أو أجهزة الخزن التي انتشرت بشكل واسع مؤخراً. لهذا السبب، بات مألوفا مشاهدة اصطفاف اليمنيين مساءً على الأرصفة، أمام المقاهي والاستراحات والمطاعم التي لديها كهرباء، من أجل شحن هواتفهم ومعداتهم الكهربائية، حسب ما هو متاح وممكن.
إلا أن أعداد هذه المحلات تناقصت تدريجياً مع اشتداد الأزمة واختفاء الوقود من الأسواق، وارتفاع أسعاره في السوق السوداء من 3000 ريال (نحو 15 دولارا) لكل عشرين ليتراً إلى ضعفها في الأسبوع الأول، ليصل سعر غالون البنزين (20 ليترا) في الأسابيع اللاحقة إلى 30 ألف ريال أي نحو 150 دولارا.. الأمر الذي يفوق القدرة الشرائية لأصحاب محلات تجارية صغيرة، كما يفوق قدرة معظم الأسر اليمنية في مجتمع نصفه يعيش تحت خط الفقر أصلاً.
يقضي اليمنيون أربع إلى خمس ساعات يوميا، من العصر إلى العشاء، في تناول أوراق القات في المنازل أو أماكن عملهم ضمن ما يعرف بالمقيل. وبينما كانوا في السابق يحملون القات والماء والمشروبات داخل أكياس بلاستيكية، فإنهم الآن يحملون داخلها توصيلات كهربائية وأجهزة شحن بالمقام الأول. وبات العامل الأول لتحديد الوجهة التي سيقصدها المقيل هو الكهرباء ووجود مولد أو طاقة شمسية تتيح له الشحن.
كثير من المواد والأجهزة المنزلية باتت خارج نطاق استخدام اليمنيين منذ ثلاثة أشهر، وفي طليعتها: الثلاجة والسخّان. وباتت معظم الأسر تعتمد على وسائل بدائية من أجل حفظ الأطعمة أو تبريدها، أو من أجل تسخين المياه. وفيما عدا "المولات" والسوبرماركت والمطاعم والفنادق الكبيرة، فإن معظم المولدات الكهربائية، وبخاصة المنزلية، ذات قدرة محدودة تقتصر على إنارة بضع غرف وتشغيل جهاز تلفزيون وجهاز "مودم" للاتصال بالانترنت.. الأمر الذي أسهم في رواج تجارة بيع قوالب الثلج من جهة، وضاعف، من جهة أخرى، معاناة ربات البيوت اللواتي يضطررن إلى حفظ الأغذية بطرق بدائية. ولولا الهواتف المحمولة لخيل للمرء أن اليمنيين يعيشون في زمن غابر.
تحسنت المعيشة نسبيا، وإن بشكل طفيف، في العاصمة صنعاء مع دخول المواد الإغاثية وسفن الوقود بفضل الهدنة الإنسانية لخمسة أيام في أيار/مايو المنصرم. وعادت الكهرباء في بعض الأحياء لمدة ساعة في اليوم أو كل يومين، أو مرة في الأسبوع في معظم أحياء العاصمة. قال أحد المواطنين: "عندما تعود أحتار وأظل عاجزا عن فعل شيء من شدة الفرحة. وما إن أبدأ في توصيل أجهزة الشحن وأشغل التلفاز حتى تنطفئ بعد لحظات وجيزة". وقال آخر إنه يبقى واقفاً بضع دقائق الى جوار الثلاجة من أجل سماع صوتها الذي يشتاق إليه كثيرا، وهو الوحيد المتاح، على اعتبار أنه من غير الممكن تشغيل مضخة المياه لأن الماء مقطوع عن جميع أحياء العاصمة منذ نحو ثلاثة أشهر بسبب عدم توفر الوقود والمشتقات النفطية للمؤسسة العامة للمياه.
يقضي سكان أحياء صنعاء والمدن الحارة والساحلية، كالحديدة، ساعات طويلة من الليل على الأرصفة أمام المنازل في تجمعات بشرية محدودة يتخللها بالضرورة صوت المذياع.
في حي الزراعة وسط العاصمة، كما في العديد من الأحياء، يتجمع سكان الحي مساء ويفترشون الأرصفة ويقضون ساعات من الليل أمام قسم صغير للشرطة من أجل شحن معداتهم الشخصية بشكل يومي، وعيونهم إلى السماء خشية ما يتساقط من "الراجع" من أعيرة مضادات الطيران التي تطلقها الدفاعات الأرضية، وهي تسببت في جرح وقتل العشرات حسب تقارير منظمات حقوقية.
ويضطر العديدون إلى الذهاب إلى وظائفهم في المؤسسات الحكومية على الرغم من توقف الأعمال وتوقف الحركة والشلل شبه التام للمؤسسات العامة والخاصة. قال موظف أن السبب الوحيد لذهابه إلى المؤسسة التي يعمل فيها وجود مولد كهربائي يتم تشغيله لمدة ساعتين صباحا ومثلهما مساء، يتيح له شحن هواتف أسرته وجهاز الكمبيوتر النقال.
بات التبرع بالكهرباء ضرباً من الواجب الأخلاقي في العديد من أحياء المدن، إذ يضطر متوسطو الدخل أو الفقراء إلى شحن هواتفهم وأجهزة الخزن والكمبيوتر الشخصي في أحد منازل الحارة من الميسورين أو رجال الأعمال. لكن ذلك لا يشمل كل أحياء صنعاء، بل يقتصر على وسط البلد حيث البيوت والأحياء متقاربة والناس أكثر اتصالا على المستوى الاجتماعي، بخلاف الحال في ضواحي صنعاء أو في أحيائها المترفة جنوبا.