على الرغم من مرور 3 أشهر تقريبا منذ حدوث الأمر،
لا أزال أعمل كل ما بوسعي لتجنب الكتابة عن هذه القصة كاشفا تفاصيل النهاية
المفاجئة والغير متوقعة لسنواتي الثلاث في اليمن، التي ما تزال تجعلني في حالة من
الذعر النفسي. لكن وبعد أن قضيت وقتا طويلا أفكر في الأمر، قررت أن أكتب عن
الواقعة، لأنها تمثل نافذة للنظر إلى تدهور الحقوق الأساسية في بلد من المفترض
أنها تعتبر إحدى نماذج نجاح الربيع العربي.
بدأ الأمر في أوائل شهر مايو الماضي، حينما كنت
أجلس في شقتي بصنعاء أتحدث في مكالمة هاتفية مع رجل قال أنه من مصلحة الجوازات
اليمنية ,قائلا أن هناك مشكلة في وثيقة إقامتي ، وبدا ذلك غريبا نوعا ما ، كوني
كنت أحد الصحفيين الاجانب القلائل في اليمن الذين يعملون بأوراق إقامة صحيحة
ومجددة ( اذ يقيم اغلب الصحافيين الاجانب
باقامة "طلاب" ، ومع علم السلطات اليمنية)، ولم تكن صلاحية إقامتي
لتنتهي حتى بداية يناير 2015.
لم يبد التوقيت أقل غرابة أيضا ، فقبل ساعة من
المكالمة ، قتل مواطن فرنسي من قبل مسلح مشتبه بانتمائه لتنظيم القاعدة في وسط
صنعاء .فهم زميلي فارع المسلمي وأنا أن الضابط كان يطلب منا التوجه الى الجهة
التابعة لوزارة الداخلية والمسؤولة عن شؤون الأجانب ، فيما اتفقنا الاثنين
بالاعتقاد أنه على ما يبدو إجراء روتيني عادي.
حينما ضحك مسئول الأمن القومي الذي طلب مني التوجه
إليه بالامس ، ضحكة ساخرة من تاكيدي له عن سعادتي بالعيش في اليمن ، تأكدت هواجسي
. لقد كنت على حافة الهاوية لأسابيع أكثر من أي وقت مضى ، منذ أن طلب مني صديق
يمني لعائلته روابط أمنية قوية أن "أكون حذراً " , الآن فقط فهمت بهدوء
أنه كان يحذرني من الحكومة ، وليس فقط من خطر هجومي من تنظيم القاعدة.
بدا مسؤول الامن القومي يستمتع بالامر بوضوح، بينما
هو يقلب صفحات جوازي بينما نحن ننتقل الى مكتب اخر.أخيرا طلب منا أن نمشي إلى ما
اتضح لاحقا أنه مجمع فيه سجن , فطلب منا أن نجلس ,وأبلغني بلهجة مهينة وعدائية
:أنه لم يعد مرحب بي في اليمن , وأنني سأقبع في السجن حتى أغادر البلد .و بلهجة
تهديدية شدد على أن محاولة الاحتجاج على القرار ستكون غير مثمرة ، إذ أن التوجيهات
بترحيلي جاءت من (أعلى المستويات) - حسب
وصفه - وأتبع ذلك القول باحتجاز هاتفي ، وهي خطوة وضعتني في موقف درامي أنا مجبر
فيه على أن أقبع في السجن حتى أشتري تذكرة سفر ، بينما لم يكن لدي أي سبيل أو
وسيلة لشرائها في الواقع بينما أنا في السجن.
بينما تم أخذي وحيدا إلى السجن ، وأنا ارتجف من
الخوف والارتباك ، بدأ فارع بمحاولة معرفة
ما الذي يجري بحق الجحيم ، وبدا الأمر في
البداية على أن هناك ما يدعوا للتفاؤل.
أكد العديد من السياسيين والشخصيات أن الأمر برمته
سيحل قريبا ، إلى درجة أن برلمانيا دعانا للغداء , ولكن بعد ساعة بدأت الهواتف بالإغلاق ,والمكالمات لم يعد يرد
عليها , وبينما بقيت قابعا في السجن أحاول مقاومة رغبتي بالتقيؤ ، أخذ فارع زمام
المبادرة وجال صنعاء محاولا إخراجي من الورطة ، والحصول على بعض التفسيرات لفهم الأمر ,ومعرفة سبب توريطي في هذا الوضع من
أساسه.
كان في استقبال فارع في أحسن الأحوال تعاطف متزن ،
وفي أسوأ الأحوال سخرية مستنكرة للأمر , وعلى أية حال ، لم يكن هناك أي وجود
للأجوبة , وفي النهاية وافق مسئول رفيع في الأمن القومي ، على إطلاق
سراحي شريطة أن يضمن فارع مغادرتي البلد اليوم التالي ، ,شريطة عدم الاحتجاج على
القرار ، وأنني سأتحمل شخصيا عواقب عدم الالتزام بذلك.في هذا الوقت ، كنت قد أدركت
بألم أنه يتم التصنت على هاتفي ، ولذلك لم يعد أمامي خيار آخر ، فالتزمت بالاتفاق
, فقد رفض المسئول تقديم أي توضيحات بخصوص
أسباب ترحيلي , خاصة أنه قيل لنا اني ان علقت على ترحيلي علنا ، فإني سأمنع من
دخول اليمن طوال حياتي.
أرسلت أحد الأصدقاء ليشتري لي تذكرة سفر ، وكان ذلك
أول شيء عملته في الصباح التالي ، وغادرت في المساء إلى القاهرة مع القليل من
مقتنياتي. وبينما كان أحد ضباط الأمن القومي يرافقني إلى الطائرة المتجهة للقاهرة
، أبلغني بلهجة بدت مهينة ومتعمدة أنه تم وضعي على القائمة السوداء الممنوعة من
دخول البلد. لقد كان ذلك واضحا بما فيه
الكفاية , تم فعليا شطب إقامتي في جوازي بالقلم الحبر في المطار.
لم أفكر أبدا أن حياتي في
اليمن سيكون لها نهاية , و لذا غني عن القول أنني لم أكن أبدا لأصدق أنها ستنتهي
بإجباري على الرحيل خلال 24 ساعة ، وطردي بأسلوب لا يليق إلا بالمجرمين.
لقد أشرفت الأمم المتحدة على اتفاق إقليمي أدى إلى
تصعيد عبدربه منصور هادي إلى الرئاسة بعد انتخابه كمرشح وحيد ، واستمرت في لعب دور
غير مسبوق في السياسة اليمنية ، كما استمرت في الإشارة إلى العملية السياسية في
البلد كمؤشر نجاح, ومع ذلك فحتى الآن لم يصدر مسئولو الأمم المتحدة أي تعليق على
ترحيلي.
في البداية أكد لي مسئول أممي رفيع المستوى بأنه
سيبذل كل ما في وسعه لكي أعود ، وكان آخر شيء مهم سمعته من موظفيه قبل أكثر من شهر
, أما الحكومة الأمريكية ، الداعم الآخر للرئيس هادي ، فقالت أنها لم تعرف بقرار
ترحيلي إلا بعد فوات الأوان للتدخل – وهذه حقيقة غريبة نوعا ما ، إن كانت صحيحة
- أخذا بعين الاعتبار العلاقات الوثيقة
بين أمريكا والمؤسسات الأمنية اليمنية , وعلى الرغم من كوني مواطنا أمريكيا ، إلا
أنه حتى الآن لم يصدر أي مسئول أمريكي أي تصريح يتعلق بإدانة قرار ترحيلي ، وحينما
تم توجيه سؤال مباشر للخارجية الأمريكية في المؤتمر الصحفي اليومي ، رفضت الخارجية
التعليق مباشرة على الأمر, بينما المسئولون اليمنيون أنفسهم وجهوا اللوم كالعادة ،
إلى أعدائهم السياسيين ، وأكد هؤلاء جميعا أن الأمم المتحدة ، والولايات المتحدة –
حسب قولهم - ستكونان سعيدتان بترحيلي.لقد
حاولوا أيضا مغازلة (الأنا) لدي ، بربط قرار ترحيلي بمقالاتي ومعرفتي بالبلد .
ورغم أنني أتمنى لو
أستطيع التصديق أن قرار ترحيلي كان نتيجة فقط لامتيازي الحصري صحفيا ، إلا أن
الأحداث الأخيرة تضع الأمور في سياق مختلف , فقبل أسبوعين تقريبا من ترحيلي
الإجباري ، خسر أحد أبرز المثقفين اليمنيين (وزير الثقافة الأسبق خالد الرويشان)
عموده الأسبوعي في صحيفة الثورة (الحكومية ) نتيجة لانتقاداته المتكررة للرئيس
هادي , وبعد أيام قليلة فقط من مغادرتي اليمن ، تمت مضايقة الصحفية البريطانية
أيونا كرايج ، وهي صحفية أوصلتها تقاريرها عن ضحايا الطائرات الأمريكية في اليمن
إلى الفوز بجائزة مارثا جالهوم للصحافة ، تمت مضايقتها حتى غادرت البلد وقيل لها
أنه لن يسمح لها بالعودة ، مع أنها أيضا كانت تحمل إقامة وتأشيرة صحفية صالحة.وفي
الـ11 من يونيو هاجم جنود تابعين لقيادة الحرس الرئاسي مقرات قناة اليمن اليوم
ونهبوا معداتها , وفي يوليو تسربت أخبار أن السلطات اليمنية قد وضعت هواتف أكثر من
20 صحافي تابعين لوسائل إعلام محلية ودولية تحت الرقابة.
على ما يبدو فإن الصحافة الناقدة لأداء الدولة ،
أصبحت أمرا غير مرحبا به في يمن ما بعد الربيع العربي , وهناك الآن حاجة أكثر من
أي وقت مضى لهذا النوع من الصحافة , في الوقت الراهن ، لا يبدو أن هناك صحفي
أمريكي واحد معتمد في البلد ، بينما الولايات المتحدة تقوم بحرب سرية ضد من تصفهم
إدارة أوباما بأكثر وحدات القاعدة خطورة في العالم.بالطبع أهمية اليمن أكثر من مجرد
القاعدة ، فهي دولة تتمتع بمكان استراتيجي ، وتمر بمرحلة انتقالية محفوفة
بالمخاطر ، وتعاني من أزمة انسانية واقتصادية خطيرة. وبإغلاقها أبوابها فان
المسئولين اليمنيين يجعلون الوضع أصعب بكثير على أي أجنبي لفهم الواقع – وبناء على
ذلك - مساعدة بلدهم.
لكن الحكومة اليمنية على
ما يبدو ، لا تبالي كثيرا بصورتها ، سواء في الداخل أو الخارج.
وبينما يمكن للمرء أن يكون قادرا على أن يغفر
للرئيس هادي الذي نادرا ما يغادر منزله ، وأخذا بعين الاعتبار كل شيء ، فأن الكثير
من الامور تشغل ذهنه حاليا. ولكن بالكاد يستطيع المرء أن يغفر لأولئك المسئولين من
حوله لتضييقهم الخناق على أي نقد ، وبعد ذلك التلاعب بعزل القيادة السياسية، من
أجل تعزيز قبضتهم الخاصة على السلطة .
إن مثل هذا العزل
الاصطناعي هو في أقله تهديد مباشر لوجود اليمن., فبينما تستمر دوامة الفوضى في هذا
الركن الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية ، أصبح اليمنيون محبطين بشدة من وضع
بلادهم , وأصبح السلام أمرا نادر الحدوث ، و الخدمات الأمنية الأساسية أكثر ندرة.
مؤخرا سيطر المتمردون الحوثيون على مدينة عمران الشمالية ، بعد أن قتلت معارك
بينهم وبين أعدائهم العسكريين والقبليين
العشرات بشكل أسبوعي ، تاركين الشمال على شفا حرب أهلية طويلة الأمد , و في الجنوب
فإن النزعة الانفصالية مرتفعة في كل الأوقات ، بينما مجموعة من المتشددين المنتمين
لتنظيم القاعدة تتصرف بحرية نسبية وتشن هجمات مسلحة متكررة على أهداف حساسة
كالمطارات والقواعد العسكرية , وتقريبا نصف اليمنيين لا يمتلكوا ما يكفيهم من
الأكل ، والبلد بأكمله يواصل الاتجاه نحو انهيار اقتصادي.
في الوقت نفسه يستمر المسئولون الغربيون ،
وبالتأكيد معهم العديد من المحللين الغربيين , في الحلف اليمن تظل نموذجا يحتذى به في المنطقة.ومهما
ساءت الأمور - على ما يبدو- فإنهم لا يزالون يرفضون إصدار كلمة نقد ضد الحكومة
الحالية . بصمتهم ذلك ، مكنوا مكنوا الحكومة اليمنية من طمس الخطوط بين المعارضة
البناءة والخيانة ، وهو اتجاه مثير للقلق ويبدو أنه ينمو وينتشر.
سيجبر اليمنيون على العيش مع عواقب قرارات قادتهم
لعقود. وإجباري على الرحيل في هذا الوقت الحساس من تاريخ البلد قد دمرني تماما.
لقد دمرني لأنني لا أعرف هل سيسمح ,أو متى
يسمح بعودتي إلى بلد طالما اعتبرتها وطني الثاني. أنا مدمر لأنني حتى لم أستطع أن
أودع معظم أصدقائي المقربين بطريقة مناسبة . أنا مدمر لأنني افترضت بسذاجة أن هذه الأمور لا يمكن أن
تحدث في "اليمن الجديد" وقبل كل شيء ، فأنا مدمر لأن بلدا يهمني أمره
جدا على وشك الترنح نحو الهاوية ، بينما
العالم ينظر بعيدا.
المصدر أونلاين - ترجمة خاصة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق