مجلة الدوحة ملتقى الإبداع العربي والثقافة الإنسانية - عن الإعلام البديل
يبقى اليمن، دائماً، في تلك المنطقة العصيّة على
الفهم والتحليل في الكثير من جوانبه. يبقى باستمرار في دائرة الحديث التي لا تؤدي
إلى نتائج لها أن تشرح طبيعة الأسباب التي أدّت إليها. فبحسب ما هو معروف عن أيّ
حقبة أو فترة زمنيّة أن تأتي في نهايتها بنتائج تقول بطبيعة الأحداث التي كانت
فيها وتقوم بتفسيرها. وهي التي سوف يُبنى عليها، لاحقاً، شكل الأحداث في الحقبة
التالية لها.
لعلّ هذا الأمر يحدث في غالبية مناطق الدنيا
باستثناء اليمن، حيث لا النتائج تقوم بتفسير ما حدث فعلاً في حقبة ما، ومن ثم تبدو
الفترة التاليّة غارقة في كامل غموضها وظاهرة بشكل مُناقض تماماً لجملة التوقّعات
التي كانت موضوعة في التفكير حولها.
ولنأخذ الإعلام في اليمن «الحزين» نموذجاً هنا
لتبيين ما جرى فيه في الفترة السابقة والمسافة التالية لحقبة الربيع العربي التي
عبرت فيه وكان من المفترض أن تأتي بنتائج وتغيّرات تساعد في بناء مناطق ضوء جديدة
لحريّة القول والكتابة وإتاحة مساحات أوسع في مجال استقلاليّة الصحافيين وحماية
حقهم في التعبير وإظهار الحقائق للجمهور.
كانت الصحافة اليمنيّة مخنوقة في عهد الرئيس السابق
علي عبد الله صالح، هذه حقيقة، لكنّ وضعها تفاقم اليوم. أتى «ربيع» الثورة
الشبابية ليزيد الحالة اختناقاً. كان الصحافي المُستقلّ، في ذلك الزمن الفائت، يجد
لنفسه مساحة، ولو ضيّقة هنا أو هناك ليضع رأيه مكتوباً دونما خوف من حذف أو تعديل.
ليجد نفسه اليوم مُحاصراً بين خيارات عدّة ليس من بينها خيار أن يبقى صحافياً
حُراً. لقد صار عليه أن يكتب محكوماً بشروط عليه التقيّد بها تماشياً مع مصالح هذه
الجهة أو تلك. لقد فرضت حالة ما بعد «الربيع» نفسها ولم يعد مُمكناً العثور على
صحيفة واحدة مستقلّة لا تضع حساباً لمموّل أو مركز قوى. لقد أُقفلت الصحف
(النزيهة)، مكاتبها وصفحاتها، وتُركت الساحة مُتاحة فقط لمن يُجيد اختيار الجهة
التي سيلعب دور ناطقها الرسمي المدافع عن مصالحها، ومن ثم تحقيق مصالحه الشخصية
التي ستعود إلى جيبه. وهي جهات مختلفة؛ فمنها ما هو تابع ومدعوم من قبل النظام
الحالي، ومنها ما هو مدفوع من طرف النظام السابق ممثلة بأموال تابعة لنجل الرئيس
السابق علي عبد الله صالح الذي صار مالكاً لأكثر من صحيفة ومطبعة بعضها ظاهر
والآخر مستتر وبأسماء رجال سياسة تابعين له. وهناك صحف تقف خلفها جماعة الإسلام
السياسيّ والمذهبيّ، خصوصاً في وسط هذا الظرف العصيب الذي وصل إليه مستوى الصراع
الطائفي في اليمن. أو رجال أعمال يرغبون في تنظيف واجهة رؤوس أموالهم والدفاع عن
مصالحهم. كما وهناك موضة الاهتمام بالمواقع الإلكترونية الإخباريّة التي صارت
اتجاهاً جديداً لقي إقبالاً لافتاً من مختلف الأطراف السياسيّة المتصارعة، والتي
وجدت في المساحة المفتوحة على شبكة الإنترنت طريقة لوصول أخبارها بشكل سريع إلى
المتلقين وفي وقت ينافس بكل تأكيد الفترة الزمنيّة التي تستغرقها الوسائل الورقيّة
المطبوعة. كما ظهرت تلك المواقع، التي يتم الصرف عليها بمبالغ ماليّة ضخمة لم
يَقْدِرْ كثير من الصحافيين على رفضها بالنظر إلى صعوبة الحالة الاقتصاديّة وتأزم
ظروف العيش في البلد. وعلى هذا بدت إمكانية استمالة الإعلاميين للعمل في تلك
المواقع مسألة سهلة ولا تحتاج لجهد كثير من أجل دفعهم لذلك. حيث تبدو مسألة الحاجة
إلى مصدر دخل بمثابة الثقل المؤثر على حق الصحافي في استقلاليته فلا يمكن لصاحب
حاجة أن يكون شخصاً مستقلاً بأي شكل من الأشكال.
والحال هذه؛ أين سيذهب الصحافي المستقلّ وإلى اتجاه
سيكون مقصده وطريق نجاته!
لقد توقّف البعض من أولئك الصحافيين عن الكتابة
محليّاً وقد صارت الحالة على الشكل الذي صارت إليه من فقدان لشرط الاستقلاليّة،
وعلى وجه الخصوص منهم من كان يمتلك مصدر دخل خارجياً وثابتاً من جهات إعلاميّة
اشتغل مراسلاً لها ولا تتطلّب منهم الانحياز لجهة أو العمل تحت الضغط. في حين وجد
آخرون في فضاء الإنترنت مساحة للتعبير والكتابة المفتوحة غير المقيّدة بشروط
مفروضة أو سقف مُحدّد مسبقاً.
تظهر المدونات هنا خياراً تقدّم بقوة ليتخذ لنفسه
مكاناً لافتاً في بيئة اجتماعية صار الإقبال فيها على شبكة الإنترنت من أجل الحصول
على المعلومة يأخذ منها وسيلة لتواصله مع أحداث البلاد وتقلّباتها.
يمثل الصحافي محمد عبده العبسي هنا نموذجاً
للصحافيين الذين اختاروا الإنترنت بديلاً عن النشر الورقي. وكان هذا الصحافي قد
عُرِفَ، في فترة ما قبل «الربيع»اليمني باشتغاله الميداني الباحث عن مكامن الفساد
المالي وقضايا التزييف في مسائل المناقصات الحكومية التي تذهب إلى أسماء بعينها
ومافيا تتزعمها شخصيات بارزة في الدولة من وزراء وضباط جيش وشيوخ قبائل. وكان
العبسي يجد، في ذلك الوقت صحيفة هنا أو هناك تنشر له ما كان ينجح في جمعه من
«فضائح» مدعومة بوثائق صحيحة، لكن الوضع تغيّر بعد «الربيع» إياه، فلم تعد تلك
الوثائق قادرة على عثورها لمنفذ نشر لتعارضها مع مصالح الجهات الممولة لهذه
الصحيفة أو تلك. وقد تسمح جريدة بنشر وثائق بعينها في حين ترفض نشر أخرى، لأنها
تمس الجهة التي تقف وراء تمويلها.وهو الأمر الذي يعني استخدام الصحافي لضرب هذه
الجهة لصالح ممول جهة أخرى. وهو الأمر الذي دفع بهذا الصحافي لأن يعلن توقّفه عن
النشر في أيّ صحيفة محليّة واختياره قرار إنشاء مدونة والاشتغال عليها ونشر كافة
الوثائق التي صارت في يده دونما فعل حساب لجهة أو لأخرى، هذا إضافة لاشتغاله على
صفحته الشخصية على الفيسبوك واضعاً لرابط بينها وبين مدونته التي اقترب عدّادها من
تسجيل قرابة نصف المليون قارئ. (أكبر صحيفة محليّة انتشاراً لايزيد عدد نسخها
المطبوعة على الـ 15000 نسخة).
وهكذا ظهرت هذه المدونة كما لو أنها إشارة بدء
لمرحلة جديدة في سياق السلطة الرابعة في اليمن السعيد بعيداً عن سلطة الرقابة
والشروط المسبقة. حالة دفعت بالروائية اليمنية نبيلة الزبير صاحبة «زوج حذاء
لعائشة» (دار الساقي) لوضع اقتراح في صفحتها الشخصية على الفيسبوك يقول بإمكانية
وضع مدونة العبسي تحت شرط الدخول بمقابل مبلغ مالي رمزي له أن يساعد على تطويرها
وفتح مساراتها على أفق صحافية أخرى، خصوصاً أن نوعية الأشغال الصحافية الميدانية
التي يقوم بها صاحب المدونة تتطلّب تكاليف مادّية غير بسيطة وهو ما سوف يُؤمِّن
للمدونة استمراريتها وتطوّرها.
إلى هذا أظهرت الصفحات الشخصيّة على موقع التواصل
الاجتماعي الفيسبوك حضوراً كبيراً ويتضاعف بشكل تصاعدي لافت بين أوساط المتلقين
إلى الدرجة التي تجاوز فيها عدد متابعي مجموعة من تلك الصفحات إلى ما يفوق المئة
ألف متابع، وهيّ صفحات عديدة وتتفاوت أشكال الانتماء السياسيّ لأصحابها. وهو الأمر
الذي دفع السلطة في مناسبات عديدة لإعلان بيانات رسميّة تنفي فيها بعض الأخبار
الواردة على تلك الصفحات ولم يحدث هذا التطوّر إلا بعد أن اكتشفت تلك السلطة قوة
الوصول التي صارت تمتلكها تلك الصفحات الفيسبوكيّة التي لم يعد أمر التحكّم فيها
مُمكناً أو تحقيق مسألة إخضاعها لرقابة مُسبقة شيئاً في متناول اليد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق