لو كانت هذه زيارتك الأولى إلى اليمن ورغبت، بحكم عملك كباحث أو صحافي، أن تتعرف على أحوال الناس وأوضاع البلد بطريقة انطباعية مغايرة، من دون الاستعانة بصديق أو دليل محلي، ودون استعمال "النظارات" الحكومية، أو عدسات مجتمع "الكلاس"، فكل ما عليك فعله هو استئجار سيارة يفضّل أن يكون سائقها قليل الكلام أو "رعوياً" من أبناء القبائل والمزارعين، أولئك الذين تلمس في تعاملهم مسحة براءة وشيئا من عفوية الريف. ارتدِ زيّاً محلياً وقاوم رغبتك في ربط حزام الأمان وتجوّل في الشوارع والمدن بأناة وأريحية. إنها دعوة، أو ربما تجربة، لاستخلاص استنتاجات بصرية أولية عن الأوضاع بالاعتماد على حاسة البصر وحسب. في اليمن يبدو ذلك ممكناً.
يكفي أن تشاهد طوابير السيارات الواقفة أمام محطات التزود بالوقود في مدن عدة لتتيقّن أن اليمن، أفقر دول الخليج العربي وأكبرها تعداداً سكانياً، تواجه أزمة اقتصادية خانقة ونقصاً في السيولة المالية إلى درجة عجز الحكومة عن استيراد وتوفير ما يحتاجه المستهلك المحلي من وقود.
ويكفي أن تشاهد، أثناء تجوالك في العاصمة صنعاء، الحواجز الأسمنتية أمام السفارات والوزارات والمنشآت الحكومية الحيوية، وحتى أقسام الشرطة، لتدرك أن فاقد الأمن لا يعطيه، وأن التحدي الأمني في اليمن ليس بالهيّن، وأن تنظيم القاعدة ليس مجرد شبح أو فزاعة حقل.
يكفي أن تشاهد دعايات الحكومة في اللوحات الإعلانية بشوارع صنعاء، عن نجاح مؤتمر الحوار الوطني ووثيقة تقسيم البلد إلى ستة أقاليم، لتسأل نفسك: إن كان الحوار قد نجح وحقق أهدافه، فما سبب وجود هذه اللوحة إذاً؟ ... فعندما أصيبت عائلة ماكاندو، بطل رواية مئة عام من العزلة لماركيز، بمرض النسيان كتبوا على كل شيء اسمه: علبة شاي، قنينة ماء، طاولة، سكين.. الخ.
يكفي أن تشاهد بعد الانتفاضة الشبابية المسلحين في تعز، المدينة الأكثر تعليماً ومدنيةً وتعداداً سكانياً...
يكفي أن تشاهد، أثناء تجوالك بالتاكسي، القصور والفيلات الفخمة في الضاحية الجنوبية من العاصمة صنعاء، لتدرك أن داروين مخطئ، وأن البقاء ليس للأقوى بل لـ"الأوسخ".
وبالعكس، يكفي أن تشاهد مساكن "المهمّشين السود" الذين يشكلون غالبية عمال النظافة في اليمن كقَدَر لا كوظيفة، وهم يقطنون بيوت الصفيح التي تدعى "مَحْوى"، هناك في "باب السباح" أو "سائلة الحصبة"، على مقربة من دارة الشيخ الأحمر، أو في ضاحية سعوان، على مقربة من السفارة الأميركية، لتدرك أن مارتن لوثر كينغ لم يكن لديه حلم، وأن قانون "متساوون لكن منفصلون" الفيدرالي الأميركي، كان أرحم من القانون العُرفي اليمني "غير منفصلين إنما غير متساوين"، وأن أوباما الذي احتفل بجلوسه على كرسي البيت الأبيض مع روزا باركس التي رفضت قبل خمسين عاماً التخلي عن مقعدها في باص عمومي لشخص أبيض، عاصية بذلك أوامر سائق الباص (ويؤرخ بالحادثة وما تلاها لاندلاع الحركة الحقوقية)، ليس مهتماً بمحْوى السّود القريب من سفارة بلاده، وأنه لا يرى في اليمن غير شيئين: عناصر تنظيم القاعدة بعين، والطائرات من دون طيار بالعين الأخرى، وما بينهما مجرد غشاوة وأناس يُنظر إلى كثير منهم بوصفهم إرهابيين محتملين مستقبلاً.
يكفي أن تشاهد في قلب العاصمة سيارة مسرعة يملؤها مسلحون ستعرف لاحقاً أنهم مرافقون وحراس لدى ذلك الشخص الجالس بأبهة، والمتمايز عن مرافقه، بحسن ملبسه ونظافته، الذي يدعى شيخاً. فإن كنت لتسمح لي بتسريب ملاحظة هامشية كنت لأقول إن أهم أسباب تخلّف اليمن إنما يعود إلى ثنائية "الشيخ والسيّد" التي حكمت اليمن قروناً عديدة وعزلته عن العالم.
يكفي أن تشاهد، في شارع الخمسين، الحي السكني المفضل لنخبة نظام الرئيس السابق ونجله، لوحةً دعائية كبيرة الحجم، يظهر فيها الرئيس الحالي عبد ربه هادي ملوحاً بيده نحو الجماهير، كأي "زعيم"، وعليها عبارات الولاء له باسم أبناء محافظة صنعاء، لتدرك أن اليمن يعيش أزمة سياسية وصراع ولاءات، وأن النزوع إلى احتكار تمثيل منطقة، وإيقاظ هوياتها النائمة، ليست نزلة برد ولا زكاماً موسمياً، وأن العملية الانتقالية في البلد ليست كما هي عليه في نشرات الأخبار وخطابات مبعوث الأمم المتحدة. الأمر معقد.
جنوباً، يكفي أن تشاهد أثناء تجوالك في مدينة عدن شعارات الانفصال وعلم جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية على الجدران وفوق سطوح المنازل وفي كل مكان، حتى تتيقن أن الرئيس هادي عندما قال ويقول في خطاباته: "إن الوحدة باقية وستظل شامخة شموخ الجبال" ربما يقصد الوحدة بين ألمانيا الشرقية والغربية!
يكفي أن تعتاد، بعد أيام من إقامتك في اليمن، على انقطاع التيار الكهربائي بانتظام، لتدرك أن هذا البلد الجميل والشقي خاض عشرات الحروب والنزاعات الأهلية والانقلابات، منذ خمسين عاماً، لكن المتعاقبين على حكمه منذ خمسة عقود، على اختلافهم، لم يتمكنوا مجتمعين من إنشاء محطات كهربائية تولد حتى 1000 ميغاوات من الطاقة.
إن لم تكتف من رحلتك بعد، فيكفي أن ترى اليمني بعد ثلاث سنوات على انتفاضته في 2011 يعيش يومه كيفما اتفق. الدستور معطل، لا يهم. البرلمان انتهت ولايته، لا يهم. الرئيس انتهت ولايته، لا يهم. النزاعات المسلحة تتسع رقعتها. أيضاً، لا يهم. "ما محبة إلا بعد عداوة". هكذا يتكيف اليمني مع الأمر. مع الوقت، وطول الإقامة، ستعتاد على اللاوضع الطبيعي وتتنبه إلى أن الحياة تمضي وحسب. أحياناً تمر أيام على اليمنيين من دون ماء ولا كهرباء ولا بنزين، إنما دون أن يسلبهم ذلك ابتساماتهم وروح الدعابة والنكتة. في الحقيقة، طوال أسابيع وشهور طويلة في 2011، كان معظم سكان العاصمة من دون ماء ولا كهرباء ولا وقود. الطرق مهجورة، حرب في الشوارع، قذائف تتساقط هنا وهناك. لكننا عشنا حياتنا بشكل شبه طبيعي. كنا نكتب، نتواعد، نلتقي بأصدقائنا، نضحك، نتناقش في السياسة في مقائل القات. وبعد المغرب نشرب شاهي بالحليب في أطرف مقهى.
يكفي أن تشاهد طوابير السيارات الواقفة أمام محطات التزود بالوقود في مدن عدة لتتيقّن أن اليمن، أفقر دول الخليج العربي وأكبرها تعداداً سكانياً، تواجه أزمة اقتصادية خانقة ونقصاً في السيولة المالية إلى درجة عجز الحكومة عن استيراد وتوفير ما يحتاجه المستهلك المحلي من وقود.
ويكفي أن تشاهد، أثناء تجوالك في العاصمة صنعاء، الحواجز الأسمنتية أمام السفارات والوزارات والمنشآت الحكومية الحيوية، وحتى أقسام الشرطة، لتدرك أن فاقد الأمن لا يعطيه، وأن التحدي الأمني في اليمن ليس بالهيّن، وأن تنظيم القاعدة ليس مجرد شبح أو فزاعة حقل.
يكفي أن تشاهد دعايات الحكومة في اللوحات الإعلانية بشوارع صنعاء، عن نجاح مؤتمر الحوار الوطني ووثيقة تقسيم البلد إلى ستة أقاليم، لتسأل نفسك: إن كان الحوار قد نجح وحقق أهدافه، فما سبب وجود هذه اللوحة إذاً؟ ... فعندما أصيبت عائلة ماكاندو، بطل رواية مئة عام من العزلة لماركيز، بمرض النسيان كتبوا على كل شيء اسمه: علبة شاي، قنينة ماء، طاولة، سكين.. الخ.
يكفي أن تشاهد بعد الانتفاضة الشبابية المسلحين في تعز، المدينة الأكثر تعليماً ومدنيةً وتعداداً سكانياً...
يكفي أن تشاهد، أثناء تجوالك بالتاكسي، القصور والفيلات الفخمة في الضاحية الجنوبية من العاصمة صنعاء، لتدرك أن داروين مخطئ، وأن البقاء ليس للأقوى بل لـ"الأوسخ".
وبالعكس، يكفي أن تشاهد مساكن "المهمّشين السود" الذين يشكلون غالبية عمال النظافة في اليمن كقَدَر لا كوظيفة، وهم يقطنون بيوت الصفيح التي تدعى "مَحْوى"، هناك في "باب السباح" أو "سائلة الحصبة"، على مقربة من دارة الشيخ الأحمر، أو في ضاحية سعوان، على مقربة من السفارة الأميركية، لتدرك أن مارتن لوثر كينغ لم يكن لديه حلم، وأن قانون "متساوون لكن منفصلون" الفيدرالي الأميركي، كان أرحم من القانون العُرفي اليمني "غير منفصلين إنما غير متساوين"، وأن أوباما الذي احتفل بجلوسه على كرسي البيت الأبيض مع روزا باركس التي رفضت قبل خمسين عاماً التخلي عن مقعدها في باص عمومي لشخص أبيض، عاصية بذلك أوامر سائق الباص (ويؤرخ بالحادثة وما تلاها لاندلاع الحركة الحقوقية)، ليس مهتماً بمحْوى السّود القريب من سفارة بلاده، وأنه لا يرى في اليمن غير شيئين: عناصر تنظيم القاعدة بعين، والطائرات من دون طيار بالعين الأخرى، وما بينهما مجرد غشاوة وأناس يُنظر إلى كثير منهم بوصفهم إرهابيين محتملين مستقبلاً.
يكفي أن تشاهد في قلب العاصمة سيارة مسرعة يملؤها مسلحون ستعرف لاحقاً أنهم مرافقون وحراس لدى ذلك الشخص الجالس بأبهة، والمتمايز عن مرافقه، بحسن ملبسه ونظافته، الذي يدعى شيخاً. فإن كنت لتسمح لي بتسريب ملاحظة هامشية كنت لأقول إن أهم أسباب تخلّف اليمن إنما يعود إلى ثنائية "الشيخ والسيّد" التي حكمت اليمن قروناً عديدة وعزلته عن العالم.
يكفي أن تشاهد، في شارع الخمسين، الحي السكني المفضل لنخبة نظام الرئيس السابق ونجله، لوحةً دعائية كبيرة الحجم، يظهر فيها الرئيس الحالي عبد ربه هادي ملوحاً بيده نحو الجماهير، كأي "زعيم"، وعليها عبارات الولاء له باسم أبناء محافظة صنعاء، لتدرك أن اليمن يعيش أزمة سياسية وصراع ولاءات، وأن النزوع إلى احتكار تمثيل منطقة، وإيقاظ هوياتها النائمة، ليست نزلة برد ولا زكاماً موسمياً، وأن العملية الانتقالية في البلد ليست كما هي عليه في نشرات الأخبار وخطابات مبعوث الأمم المتحدة. الأمر معقد.
جنوباً، يكفي أن تشاهد أثناء تجوالك في مدينة عدن شعارات الانفصال وعلم جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية على الجدران وفوق سطوح المنازل وفي كل مكان، حتى تتيقن أن الرئيس هادي عندما قال ويقول في خطاباته: "إن الوحدة باقية وستظل شامخة شموخ الجبال" ربما يقصد الوحدة بين ألمانيا الشرقية والغربية!
يكفي أن تعتاد، بعد أيام من إقامتك في اليمن، على انقطاع التيار الكهربائي بانتظام، لتدرك أن هذا البلد الجميل والشقي خاض عشرات الحروب والنزاعات الأهلية والانقلابات، منذ خمسين عاماً، لكن المتعاقبين على حكمه منذ خمسة عقود، على اختلافهم، لم يتمكنوا مجتمعين من إنشاء محطات كهربائية تولد حتى 1000 ميغاوات من الطاقة.
إن لم تكتف من رحلتك بعد، فيكفي أن ترى اليمني بعد ثلاث سنوات على انتفاضته في 2011 يعيش يومه كيفما اتفق. الدستور معطل، لا يهم. البرلمان انتهت ولايته، لا يهم. الرئيس انتهت ولايته، لا يهم. النزاعات المسلحة تتسع رقعتها. أيضاً، لا يهم. "ما محبة إلا بعد عداوة". هكذا يتكيف اليمني مع الأمر. مع الوقت، وطول الإقامة، ستعتاد على اللاوضع الطبيعي وتتنبه إلى أن الحياة تمضي وحسب. أحياناً تمر أيام على اليمنيين من دون ماء ولا كهرباء ولا بنزين، إنما دون أن يسلبهم ذلك ابتساماتهم وروح الدعابة والنكتة. في الحقيقة، طوال أسابيع وشهور طويلة في 2011، كان معظم سكان العاصمة من دون ماء ولا كهرباء ولا وقود. الطرق مهجورة، حرب في الشوارع، قذائف تتساقط هنا وهناك. لكننا عشنا حياتنا بشكل شبه طبيعي. كنا نكتب، نتواعد، نلتقي بأصدقائنا، نضحك، نتناقش في السياسة في مقائل القات. وبعد المغرب نشرب شاهي بالحليب في أطرف مقهى.
إضافة تعليق (*=حقل إلزامي)
الإسم | |
البريد الإلكتروني | |
عنوان التعليق* | |
نص التعليق | |
تثبيت الرمز* | تغيير الرمز |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق